عبارته في اعتقاداته
وأحد هذه المصنّفات (كتاب الإعتقادات)، الذي قال فيه بكلّ وضوح وصراحة: «إعتقادنا في القرآن أنّه كلام اللّه ووحيه وتنزيله وقوله وكتابه، وأنّه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم عليم، وأنّه القصص الحقّ، وأنّه لقول فصل وما هو بالهزل، وأنّ اللّه تبارك وتعالى محدّثه ومنزّله وربّه وحافظه والمتكلّم به… .
إعتقادنا أنّ القرآن الذي أنزله اللّه تعالى على نبيّه محمّد صلّى اللّه عليه وآله هو ما بين الدفّتين، وهو ما في أيدي الناس، ليس بأكثر من ذلك، ومبلغ سوره عند الناس مائة وأربع عشر سورة، وعندنا أنّ (الضحى) و(ألم نشرح) سورة واحدة، و(لإيلاف) و(ألم تر كيف) سورة واحدة».
يعني رحمه اللّه: إنّ القرآن الذي أنزله اللّه تعالى على نبيّه، أي: أنّ كلّ ما أُوحي إليه بعنوان «القرآن» هو «ما بين الدفّتين» لا أنّ هذا الموجود «ما بين الدفّتين» بعضه، وهو ما في أيدي الناس، فما ضاع عنهم شيء منه، فالقرآن عند الشيعة وسائر «الناس» واحد، غير أنّ القرآن الموجود عند المهدي عليه السلام ـ وهو ما كتبه علي عليه السلام ـ يشتمل على علم كثير.
ثمّ يقول: «ومن نسب إلينا أنّا نقول أنّه أكثر من ذلك فهو كاذب».
ومنه يظهر أنّ هذه النسبة «إلينا» أي: إلى الطائفة الشيعية قديمة جدّاً، وأنّ ما تلهج به أفواه بعض المعاصرين من الكتّاب المأجورين أو القاصرين ليس بجديد، فهو «كاذب» وعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين.
إذن، يحرم نسبة هذا القول إلى «الطائفة» سواء كان الناسب منها أو من غيرها.
ثم قال رحمه اللّه: «وما روي من ثواب قراءة كلّ سورة من القرآن، وثواب من ختم القرآن كلّه، وجواز قراءة سورتين في ركعة، والنهي عن القِران بين سورتين في ركعة فريضة، تصديق لما قلناه في أمر القرآن، وأن مَبلَغه ما في أيدي الناس، وكذلك ما روى من النهي عن قراءة القرآن كلّه في ليلة واحدة وأنّه لا يجوز أن يختم القرآن في أقلّ من ثلاثة أيّام، تصديق لما قلناه أيضاً. بل نقول أنّه قد نزل من الوحي الذي ليس من القرآن، ما لو جمع إلى القرآن لكان مبلغه مقدار سبع عشرة ألف آية… ومثل هذا كثير، كلّه وحي ليس بقرآن. ولو كان قرآناً لكان مقروناً به وموصولاً إليه غير مفصول عنه، كما قال أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام لمّا جمعه، فلمّا جاء به فقال لهم: هذا كتاب اللّه ربّكم كما أُنزل على نبيّكم لم يزد فيه حرف ولا ينقص منه حرف، فقالوا: لا حاجة لنا فيه، عندنا مثل الذي عندك، فانصرف وهو يقول: (فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَليلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ)(1)»(2).
ومع هذا كلّه، نرى الشيخ الصدوق يروي في بعض كتبه مثل (ثواب الأعمال) ما هو ظاهر في التحريف، بل يروي في كتابه (من لا يحضره الفقيه) الذي يُعدّ أحد الكتب الحديثيّة الأربعة التي عليها مدار البحوث في الأوساط العلمية واستنباط الأحكام الشرعية في جميع الأعصار، وقال في مقدّمته: «لم أقصد فيه قصد المصنّفين في إيراد جميع ما رووه، بل قصدت إلى إيراد ما أُفتي به وأحكم بصحّته وأعتقد فيه أنّه حجّة فيما بيني وبين ربّي» من ذلك ما لا يقبله ولا يفتي به أحد من الطائفة، وهو ما رواه عن سليمان بن خالد، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: في القرآن رجم؟ قال: نعم، قلت: كيف؟ قال: الشيخ والشيخة فارجموهما البتة فإنّهما قضيا الشهوة»(3).
ورواه الشيخان الكليني والطوسي أيضاً عن عبد اللّه بن سنان بسند صحيح بحسب الإصطلاح، كما ستعرف.
والخبران يدلاّن على ثبوت الرّجم على الشيخ والشيخة مع عدم الإحصان أيضاً، ولا قائل بذلك منّا كما في (مباني تكملة المنهاج) الذي أجاب عن الخبرين قائلاً:
«ولا شكّ في أنّهما وردتا مورد التقيّة، فإنّ الأصل في هذا الكلام هو عمر بن الخطاب. فإنّه ادّعى أنّ الرجم مذكور في القرآن وقد وردت آية بذلك… وقد تعرّضنا لذلك في كتابنا (البيان) في البحث حول التحريف، وأنّ القرآن لم يقع فيه تحريف»(4).
ولهذا ونظائره، أعضل الأمر على العلماء حتى حكى في (المستمسك)(5)عن بعض العلماء الكبار أنّه قال بعدول الشيخ الصدوق في أثناء كتاب (من لا يحضره الفقيه) عمّا ذكره في أوّله، وأشكل عليه بأنّه لو كان كذلك لنوّه به من حيث عدل، وإلاّ لزم التدليس ولا يليق بشأنه، وللتفصيل في هذا الموضوع مجال آخر.
وكيف كان، فإنّ كلام الشيخ الصدوق رحمه اللّه في (الإعتقادات) مع العلم بروايته لأخبار التحريف في كتبه وحتى في (من لا يحضره الفقيه)، لخير مانع من التسرّع في نسبة قول أو عقيدة إلى شخص أو طائفة مطلقاً، بل لابدّ من التثبّت والتحقيق حتّى حصول الجزم واليقين.
كما أنّ موقفه الحازم من القول بالتحريف ونفيه القاطع له ـ مع العلم بما ذكر ـ لخير دليل على صحّة ما ذهبنا إليه فيما مهّدناه وقدّمناه قبل الورود في البحث حول معرفة آراء الرواة لأخبار تحريف القرآن، وستظهر قيمة تلك الأُمور الممهّدة وثمرتهاـ لاسيّما بعد تشييدها بما ذكرناه حول رأي الشيخ الصدوق ـ في البحث حول رأى الطائفة الثالثة، وعلى رأسهم الشيخ الكليني.
(1) سورة آل عمران: 187.
(2) الإعتقادات، باب الاعتقاد في مبلغ القرآن 60 ـ 61.
(3) من لا يحضره الفقيه 4 : 26، الحدود والتعزيرات، الحديث 4998.
(4) مباني تكملة المنهاج 1 : 196، وسيأتي الكلام حول هذه الآية المزعومة في الباب الثاني (السنّة والتحريف) بالتفصيل فانتظر.
(5) مستمسك العروة الوثقى، مبحث نجاسة الميتة 1 : 303 حكاه عن المجلسي رحمه اللّه.