رفض أحاديث قبول الآية بشاهدين
وكذا نرفض ما أخرجه ابن أبي داود: «فرق أبوبكر على القرآن أن يضيع فقال لعمر بن الخطاب ولزيد بن ثابت اقعدا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب اللّه فاكتباه»(1) قال ابن حجر: «رجاله ثقات مع انقطاعه». فإنّه بغضّ النظر عمّا في سنده تدفعه الضرورة، فلا حاجة إلى الوجوه التي ذكرها ابن حجر لتوجيهه حيث قال: «كأنّ المراد بالشاهدين الحفظ الكتاب، أو المراد أنّهما يشهدان على أنّ ذلك المكتوب كُتِبَ بين يدي رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه وسلّم ـ ، أو المراد أنّهما يشهدان على أنّ ذلك من الوجوه التي نزل بها القرآن، وكان غرضهم أن لا يكتب إلاّ من عين ما كتب بين يدي النبي ـ صلّى اللّه عليه وسلّم ـ لا من مجرّد الحفظ»(2) مع أنّ بعض تلك الوجوه غير قابل للتصديق به أبداً.
ولهذا الحديث ـ في الدلالة على كتابة القرآن بشهادة الشاهدين ـ نظائر في كتبهم نذكر بعضها مع إسقاط أسانيدها:
1 ـ «لمّا قُتل أهل اليمامة أمر أبو بكر الصديق عمر بن الخطّاب وزيد بن ثابت فقال: أجلسا على باب المسجد، فلا يأتينّكما أحد بشيء من القرآن تنكرانه يشهد عليه رجلان إلاّ أثبتّماه; وذلك لأنّه قتل باليمامة ناس من أصحاب رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه وسلّم ـ قد جمعوا القرآن»(3).
2 ـ «أراد عمر بن الخطّاب أن يجمع القرآن فقام في الناس فقال: من كان تلقّى من رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه وسلّم ـ شيئاً من القرآن فليأتنا به، وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئاً حتى يشهد شهيدان، فقتل وهو يجمع ذلك إليه، فقام عثمان فقال: من كان عنده من كتاب اللّه شيء فليأتنا به، وكان لا يقبل من ذلك شيئاً حتى يشهد عليه شهيدان، فجاء خزيمة بن ثابت فقال: إنّي قد رأيتكم تركتم آيتين لم تكتبوها، قالوا: ما هما؟ قال: تلقّيت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ)إلى آخر السورة. فقال عثمان: وأنا أشهد أنّهما من عند اللّه، فأين ترى أن نجعلهما؟ قال: اختم بهما آخر ما نزل من القرآن، فختمت بهما براءة»(4).
3 ـ «كان عمر لا يثبت آية في المصحف حتى يشهد رجلان، فجاء رجل من الأنصار بهاتين الآيتين: (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) إلى آخرها، فقال عمر: لا أسألك عليها بيّنة أبداً، كذلك كان رسول اللّه»(5).
4 ـ خزيمة بن ثابت: «جئت بهذه الآية: (لَقَدْ جاءَكُمْ…) إلى عمر بن الخطّاب وإلى زيد بن ثابت، فقال زيد: من يشهد معك؟ قلت: لا واللّه ما أدري. فقال عمر: أنا أشهد معه على ذلك»(6).
5 ـ زيد بن ثابت: «لمّا كتبنا المصاحف فقدت آية كنت أسمعها من رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه وسلّم ـ فوجدتها عند خزيمة بن ثابت: (مِنَ الْمُؤْمِنينَ رِجالٌ صَدَقُوا…) وكان خزيمة يدعى ذا الشهادتين، أجاز رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه وسلّم ـ شهادته بشهادة رجلين»(7).
6 ـ «أول من جمع القرآن أبوبكر وكتبه زيد، وكان الناس يأتون زيد بن ثابت فكان لا يكتب آية إلاّ بشاهدي عدل، وإنّ آخر سورة براءة لم توجد إلاّ مع خزيمة ابن ثابت، فقال اكتبوها فإنّ رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه وسلّم ـ جعل شهادته بشهادة رجلين، فكتب. وإنّ عمر أتى باية الرجم فلم يكتبها لأنّه كان وحده»(8).
وممّا يزيد بطلان هذه الأحاديث وضوحاً وجود التكاذب فيما بينها، وبيان ذلك:
إنّ الحديث الثاني صريح في أنّ الجمع كان في زمن عمر والآتي بالآيتين خزيمة بن ثابت والشاهد معه عثمان. لكن في الثالث «جاء رجل من الأنصار» وقال عمر: «لا أسألك عليها بيّنة أبداً كذلك كان رسول اللّه». وفي الرابع: «فقال زيد: من يشهد معك؟» قال خزيمة: «لا واللّه ما أدري، فقال عمر: أنا أشهد معه». وفي السادس: أنّ الجمع كان في زمن أبي بكر والكاتب زيد «فكان لا يكتب آية إلاّ بشهادة عدلين» وأنّ آخر سورة براءة لم توجد إلاّ مع خزيمة بن ثابت، فقال: «أُكتبوها، فإنّ رسول اللّه جعل شهادته بشهادة رجلين».
وأيضاً: وجود التكاذب بينها وبين الحديث التالى: «إنّهم جمعوا القرآن في المصاحف في خلافه أبي بكر، وكان رجال يكتبون ويملي عليهم أُبَيّ، فلمّا انتهوا إلى هذه الآية من سورة براءة: (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللّهُ…) فظنّوا أنّ هذا آخر ما نزل من القرآن، فقال لهم أُبَيّ بن كعب إنّ رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه وسلّم ـ أقرأني بعدها آيتين (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ…)(9)».
وهكذا ترتفع جميع الشبهات حول القرآن الكريم بعد سقوط الأحاديث التي هي المناشيء الأصليّة لها…
(1) المصاحف، باب جمع القرآن: 12.
(2) فتح الباري، كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن 9 : 14 ـ 15.
(3) منتخب كنز العمّال، الباب السابع في تلاوة القرآن، الفصل الرابع 2 : 45.
(4) المصدر، 2 : 45.
(5) المصدر.
(6) المصدر.
(7) المصدر، 2 : 49 و 52.
(8) الإتقان في علوم القرآن، النوع الثامن عشر في جمعه وترتيبه 1 : 206.
(9) مجمع الزوائد، كتاب التفسير، سورة براءة، 7 : 35.