ردّ أحاديث الخطأ في القرآن
قال الطبري بعد ذكر مختاره: «وإنّما اخترنا هذا على غيره لأنّه قد ذُكر أنّ ذلك في قراءة أُبَيّ بن كعب (والمقيمين) وكذلك هو في مصحفه فيما ذكروا، فلو كان ذلك خطأ من الكاتب لكان الواجب أن يكون في كلّ المصاحف غير مصحفنا الذي كتبه لنا الكاتب الذي أخطأ في كتابه بخلاف ما هو في مصحفنا، وفي اتّفاق مصحفنا ومصحف أُبَيّ في ذلك ما يدلّ على أنّ الذي في مصحفنا من ذلك صواب غير خطأ. مع أن ذلك لو كان خطأ من جهة الخطّ لم يكن الّذين أخذ عنهم القرآن من أصحاب رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه وسلّم ـ يُعلّمون من علّموا ذلك من المسلمين على وجه اللّحن، ولأصلحوه بألسنتهم ولقّنوه للأُمّة تعليماً على وجه الصواب، وفي نقل المسلمين جميعاً ذلك ـ قراءة على ما هو به في الخطّ مرسوماً ـ أدلّ دليل على صحّة ذلك وصوابه، وأنْ لا صنع في ذلك للكاتب»(1).
وقال الداني: «فإن قال قائل: فما تقول في الخبر الذي رويتموه عن يحيى ابن يعمر وعكرمة مولى ابن عبّاس عن عثمان أنّ المصاحف لمّا نُسخت عرضت عليه فوجد فيها حروفاً من اللحن، فقال: أتركوها فإنّ العرب ستقيمها ـ أو ستعربها ـ بلسانها. إذ ظاهره يدلّ على خطأ في الرسم.
قلت: هذا الخبر عندنا لا يقوم بمثله حجّة، ولا يصحّ به دليل من جهتين، إحداهما: أنّه ـ مع تخليط في إسناده واضطراب في ألفاظه ـ مرسل، لأن ابن يعمر وعكرمة لم يسمعا من عثمان شيئاً، ولا رأياه. وأيضاً، فإنّ ظاهر ألفاظه ينفي وروده عن عثمان، لما فيه من الطعن عليه، مع محلّه من الدين ومكانه من الإسلام، وشدّة اجتهاده في بذل النصيحة، واهتباله بما فيه الصلاح للأُمة. فغير متمكّن أن يقول لهم ذلك وقد جمع المصحف مع سائر الصحابة الأخيار الأتقياء الأبرار نظراً لهم ليرتفع الإختلاف في القرآن بينهم، ثمّ يترك لهم فيه مع ذلك لحناً وخطأً يتولّى تغييره من يأتي بعده، ممّن لا شكّ أنّه لا يدرك مداه ولا يبلغ غايته ولا غاية من شاهده. هذا ما لا يجوز لقائل أن يقوله، ولا يحلّ لأحد أن يعتقده.
فإن قال: فما وجه ذلك عندك لو صحّ عن عثمان؟
قلت: وجهه أن يكون عثمان أراد باللّحن المذكور فيه التلاوة دون الرسم»(2).
وقال الزمخشري: «(وَالْمُقيمينَ) نصب على المدح لبيان فضل الصّلاة وهو باب واسع وقد كسره سيبويه على أمثلة وشواهد، ولا يُلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحناً في خطّ المصحف، وربّما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الإختصاص من الإفتنان، وغُبّي عليه أنّ السابقين الأوّلين الّذين مثلُهم في التوراة ومثلُهم في الإنجيل كانوا أبعد همّة في الغِيرة على الإسلام وذبّ المطاعن عنه مِن أن يتركوا في كتاب اللّه ثلمة ليسدّها من بعدهم، وخرقاً يَرفُوه مَن يلحق بهم…»(3).
وقال الرازي: «وأمّا قوله: (وَالْمُقيمينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) ففيه أقوال; الأول: روي عن عثمان وعائشة أنّهما قالا: إنّ في المصحف لحناً وستقيمه العرب بألسنتها. واعلم: أنّ هذا بعيد، لأنّ هذا المصحف منقول بالنقل المتواتر عن رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه وسلّم ـ فكيف يمكن ثبوت اللّحن فيه؟!»(4).
وقال الزمخشري في الآية (… حَتّى تَسْتَأْنِسُوا…) بعد نقل الرواية عن ابن عبّاس فيها: «ولا يعوّل على هذه الرواية»(5).
وقال الرازي فيها: «واعلم أنّ هذا القول من ابن عبّاس فيه نظر، لأنّه يقتضي الطعن في القرآن الذي نقل بالتواتر، ويقتضي صحّة القرآن الذي لم ينقل بالتواتر، وفتح هذين البابين يطرق الشكّ إلى كلّ القرآن، وإنّه باطل»(6).
وقال النيسابوري: «روي عن عثمان وعائشة أنّهما قالا: إنّ في المصحف لحناً وستقيمه العرب بألسنتها. ولا يخفى ركاكة هذا القول، لأنّ هذا المصحف منقول بالتواتر عن رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه وسلّم ـ فكيف يمكن ثبوت اللّحن فيه؟!»(7).
وقال ابن كثير في (… حَتّى تَسْتَأْنِسُوا…) بعد نقل قول ابن عبّاس: «وهذا غريب جدّاً عن ابن عبّاس»(8).
وقال الخازن في (… وَالْمُقيمينَ…): «اختلف العلماء في وجه نصبه، فحكي عن عائشة وأبان بن عثمان: أنّه غلط من الكُتّاب، ينبغي أن يكتب: والمقيمون الصّلاة. وقال عثمان بن عفّان: إنّ في المصحف لحناً ستقيمه العرب بألسنتهم، فقيل له: أفلا تغيّره؟! فقال: دعوه، فإنّه لا يحلّ حراماً ولا يحرّم حلالاً. وذهب عامّة الصحابة وسائر العلماء من بعدهم إلى أنّه لفظ صحيح ليس فيه من خطأ من كاتب ولا غيره.
وأُجيب عمّا روي عن عثمان بن عفّان وعن عائشة وأبان بن عثمان: بأنّ هذا بعيد جدّاً، لأنّ الّذين جمعوا القرآن هم أهل اللغة والفصاحة والقدرة على ذلك، فكيف يتركون في كتاب اللّه لحناً يصلحه غيرهم، فلا ينبغي أن ينسب هذا إليهم قال ابن الأنباري: ما روي عن عثمان لا يصلح لأنّه غير متّصل، ومحال أن يؤخّر عثمان شيئاً فاسداً ليصلحه غيره… وقال الزمخشري في الكشّاف: ولا يُلتفت إلى ما زعموا…»(9).
وقال في (… حَتّى تَسْتَأْنِسُوا…): «وكان ابن عبّاس يقرأ: حتى تستأذنوا. ويقول: تستأنسوا خطأ من الكاتب. وفي هذه الرواية نظر لأنّ القرآن ثبت بالتواتر»(10).
وقال الرازي في الآية (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ):
«القراءة المشهورة (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ): ومنهم من ترك هذه القراءة، وذكروا وجوهاً أُخر ]فذكرها ووصفها بالشذوذ، ثمّ قال:[ واعلم أنّ المحقّقين قالوا: هذه القراءات لا يجوز تصحيحها، لأنّها منقولة بطريق الآحاد، والقرآن يجب أن يكون منقولاً بالتواتر، إذ لو جوّزنا إثبات زيادة في القرآن بطريق الآحاد، لما أمكننا القطع بأنّ هذا الذي هو عندنا كلّ القرآن، لأنّه لمّا جاز في هذه القراءات أنها مع كونها من القرآن ما نقلت بالتواتر جاز في غيرها ذلك، فثبت أنّ تجويز كون هذه القراءات من القرآن يطرق جواز الزيادة والنقصان والتغيير إلى القرآن، وذلك يُخرج القرآن عن كونه حجّة، ولمّا كان ذلك باطلاً فكذلك ما أدّى إليه. وأمّا الطعن في القراءة المشهورة فهو أسوء ممّا تقدّم من وجوه:
أحدها: أنّه لمّا كان نقل هذه القراءة في الشهرة كنقل جميع القرآن، فلو حكمنا ببطلانها جاز مثله في جميع القرآن، وذلك يفضي إلى القدح في التواتر وإلى القدح في كلّ القرآن، وأنّه باطل. وإذا ثبت ذلك امتنع صيرورته معارضاً بخبر الواحد المنقول عن بعض الصحابة.
وثانيها: أنّ المسلمين أجمعوا على أنّ ما بين الدفّتين كلام اللّه تعالى، وكلام اللّه تعالى لا يجوز أن يكون لحناً وغلطاً، فثبت فساد ما ينقل عن عثمان وعائشة أنّ فيه لحناً وغلطاً.
وثالثها: قال ابن الأنباري: إنّ الصحابة هم الأئمّة والقدوة، فلو وجدوا في المصحف لحناً لَما فوّضوا إصلاحه إلى غيرهم من بعدهم، مع تحذيرهم من الإبتداع وترغيبهم في الإتّباع…»(11).
وقال أبو حيّان الأندلسي في (… وَالْمُقيمينَ…) بعد ما ذكر عن عائشة وأبان بن عثمان فيها: «ولا يصحّ عنهما ذلك، لأنّهما عربيّان فصيحان»(12).
وقال القنوجي: «وعن عائشة أنّها سئلت عن (الْمُقيمينَ) وعن قوله (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) و(الصّابِئُونَ) في المائدة، فقالت: يا ابن أخي، الكُتّاب أخطأوا.
وروي عن عثمان بن عفّان أنّه لما فُرغَ من المصحف أُتي به قال: أرى فيه شيئاً من لحن ستقيمه العرب بألسنتها، فقيل له: ألا تغيّره؟! فقال: دعوه، فإنّه لا يحلّ حراماً ولا يحرّم حلالاً.
قال ابن الأنباري: وما روي عن عثمان لا يصحّ، لأنّه متّصل، ومحال أن يؤخّر عثمان شيئاً فاسداً ليصلحه غيره، ولأنّ القرآن منقول بالتواتر عن رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه وسلّم ـ فكيف يمكن ثبوت اللّحن فيه؟!
وقال الزمخشري في الكشّاف: ولا يُلتفت…»(13).
وقال في (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ): «فهذه أقوال تتضمّن توجيه هذه القراءة بوجه تصحّ به وتخرج به عن الخطأ، وبذلك يندفع ما روي عن عثمان وعائشة أنّه غلط من الكاتب للمصحف»(14).
وقال الآلوسي في (وَالْمُقيمينَ): «وبالجملة لا يُلتفت إلى من زعم أنّ هذا من لحن القرآن وأنّ الصواب (والمقيمون) بالواو كما في مصحف عبداللّه وهي قراءة مالك بن دينار والجحدري وعيسى الثقفي، إذ لا كلام في نقل النظم تواتراً فلا يجوز اللحن فيه أصلاً. وأمّا ما روي أنّه لمّا فُرغ من المصحف أُتي به إلى عثمان فقال: قد أحسنتم وأجملتم… فقد قال السخاوي: إنّه ضعيف، والإسناد فيه اضطراب وانقطاع، فإنّ عثمان رضي اللّه تعالى عنه جُعل للناس إماماً يقتدون به، فكيف يرى فيه لحناً ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها، وقد كتب عدّة مصاحف وليس فيها اختلاف أصلاً إلاّ فيما هو من وجوه القراءات. وإذا لم يقمه هو ومن باشر الجمع ـ وهم هم ـ كيف يقيمه غيرهم؟!»(15).
أقول: فهذه كلمات في ردّ هذه الأحاديث، ويلاحظ أنّ بعضهم يكتفي «بالإستبعاد»، وآخر يقول: «فيه نظر»، وثالث يقول: «لا يخفى ركاكة هذا القول»، ورابع يقول: «لا يُلتفت…»، وخامس يقول: «غريب»… .
ومنهم من يتجرّأ على التضعيف بصراحة فيقول: «لا يصحّ» وفي (الإتقان) عن ابن الأنباري أنّه جنح إلى تضعيف هذه الروايات(16) وعليه الباقلاني في «نكت الإنتصار»(17) وجماعة.
لكنّ بعضهم يستدلّ ويبرهن على بطلان هذه الأحاديث، لأنّ القول بها يفضي إلى القدح في تواتر القرآن، والطعن في الصحابة وخاصة في جامعي المصحف وعلى رأسهم عثمان، فهذه الأحاديث باطلة لاستلزامها للباطل… .
وجماعة ذهبوا إلى أبعد من كلّ هذا، وقالوا بوضع هذه الأحاديث واختلاقها، من قبل أعداء الإسلام… .
فيقول الحكيم الترمذي(18): «… ما أرى مثل هذه الروايات إلاّ من كيد الزنادقة…»(19).
ويقول أبو حيّان الأندلسي: «ومن روى عن ابن عبّاس أنّ قوله: (تَسْتَأْنِسُوا)خطأ أو وهم من الكاتب، وأنّه قرأ: حتى (تستأذنوا)، فهو طاعن في الإسلام ملحد في الدين، وابن عبّاس بريء من هذا القول»(20).
وهكذا عالج بعض العلماء والكُتّاب المتأخّرين والمعاصرين هذه الأحاديث، فنرى صاحب «المنار» يقول:
«وقد تجرّأ بعض أعداء الإسلام على دعوى وجود الغلط النحوي في القرآن، وعدّ رفع «الصابئين» هنا من هذا الغلط. وهذا جمع بين السّخف والجهل، وإنّما جاءت هذه الجرأة من الظاهر المتبادر من قواعد النحو، مع جهل أو تجاهل أنّ النحو استنبط من اللغة ولم تستنبط اللغة منه…»(21).
ويقول: «وقد عدّ مثل هذا بعض الجاهلين أو المتجاهلين من الغلط في أصحّ الكلام وأبلغه، وقيل: إنّ (المقيمين) معطوف على المجرور قبله… وما ذكرناه أولاً أبلغ عبارة وإنْ عدّه الجاهل أو المتجاهل غلطاً أو لحناً. وروي أنّ الكلمة في مصحف عبداللّه بن مسعود مرفوعة والمقيمين الصّلاة، فإنْ صحّ ذلك عنه وعمّن قرأها مرفوعة كمالك بن دينار والجحدري وعيسى الثقفي كانت قراءةً، وإلاّ فهي كالعدم.
وروي عن عثمان أنّه قال: إنّ في كتابة المصحف لحناً ستقيمه العرب بألسنتها، وقد ضعّف السخاوي هذه الرواية وفي سندها اضطراب وانقطاع. فالصواب أنّها موضوعة، ولو صحّت لَما صحّ أن يعدّ ما هنا من ذلك اللحن، لأنّه فصيح بليغ…»(22).
وهو رأي الرافعي ومحمد أبو زهرة، فقد وصف محمد أبو زهرة هذه الأحاديث المنافية لتواتر القرآن بـ : «الروايات الغريبة البعيدة عن معنى تواتر القرآن الكريم، التي احتوتها بطون بعض الكتب كالبرهان للزركشي والإتقان للسيوطي، التي تجمع كما يجمع حاطب ليل، يجمع الحطب والأفاعي، مع أن القرآن كالبناء الشامخ الأملس الذي لا يعلق به غبار».
ثمّ استشهد بكلام الرافعي القائل: «… ونحسب أنّ أكثر هذا ممّا افترته الملحدة» وقال: «وإنّ ذلك الذي ذكره هذا الكاتب الإسلامي الكبير حقّ لا ريب فيه»(23).
(1) تفسير الطبري، سورة النساء، الآية 162، 6 : 19.
(2) تاريخ القرآن، لمحمّد طاهر الكردي، ص 65 عن المقنع للداني.
(3) الكشّاف، سورة النساء، الآية 162، 1 : 590.
(4) التفسير الكبير، سورة النساء، الآية 162، 11 : 105 ـ 106.
(5) الكشاف، سورة النور، الآية 27، 3 : 227.
(6) التفسير الكبير، سورة النساء، الآية 27، 23 : 196.
(7) تفسير النيسابوري، سورة النساء 6 / 23 هامش الطبري.
(8) تفسير ابن كثير، سورة النور، الآية 27، 3 : 270.
(9) تفسير الخازن، سورة النساء، الآية 162، 1 : 447.
(10) المصدر، سورة النور، الآية 27، 3 : 290.
(11) التفسير الكبير، سورة طه، الآية 63، 22 : 74.
(12) البحر المحيط، سورة النساء، الآية 162، 3 : 411.
(13) فتح البيان، سورة النساء، الآية 162، 3 : 296 ـ 297.
(14) المصدر، تفسير سورة طه، الآية 63، 8 : 249.
(15) روح المعاني 6 : 15.
(16) الإتقان 2 : 329، النوع الحادي والأربعون في معرفة إعرابه.
(17) نكت الانتصار: 127.
(18) وهو الحافظ أبو عبداللّه محمد بن علي، صاحب التصانيف، من أئمّة علم الحديث، له ترجمة في تذكرة الحفّاظ 2 : 645 وغيرها.
(19) نوادر الأُصول: 386.
(20) البحر المحيط، سورة النور، الآية 27، 6 : 410.
(21) المنار 6 : 478، سورة المائدة، الآية 69.
(22) المنار 6 : 64، سورة النساء، الآية 162.
(23) المعجزة الكبرى، القسم الأول، كتابة المصحف على لغة قريش: 43.