حملها على نسخ التلاوة غير ممكن
الثالث: عدم إمكان حمل الآيات المذكورة على منسوخ التلاوة على فرض صحّة القول به:
فآية الرجم قد سمعها جماعة ـ كما تفيد الأحاديث المتقدّمة ـ من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم مصرّحين بأنّها من آي القرآن الكريم على حقيقة التنزيل.
وقد رأينا ـ فيما تقدّم ـ إصرار عمر بن الخطّاب على أنّها من القرآن، وحمله الصحابة بالأساليب المختلفة على كتابتها وإثباتها في المصحف كما أُنزلت، وقوله: «والذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب اللّه لكتبتها…» وكلّ ذلك صريح في أنّها كانت من القرآن وممّا لم ينسخ، وإلاّ لما أصرّ عمر على ذلك، ولَما جاز له كتابتها في المصحف الشريف.
ومن هنا قال الزركشي: «إنّ ظاهر قوله: لولا أن يقول الناس… أنّ كتابتها جائزة وإنّما منعه قول الناس، والجائز في نفسه قد يقوم من خارج ما يمنعه، وإذا كانت جائزة لزم أن تكون ثابتة، لأنّ هذا شأن المكتوب.
وقد يقال: لو كانت التلاوة باقية لبادر عمر ـ رضي اللّه عنه ـ ولم يعرّج على مقال الناس، لأنّ مقال الناس لا يصلح مانعاً.
وبالجملة، فهذه الملازمة مشكلة، ولعلّه كان يعتقد أنّه خبر واحد والقرآن لا يثبت به وإن ثبت الحكم…»(1).
ومن هنا أيضاً: أنكر ابن ظفر(2) في كتابه (الينبوع) عدّ آية الرجم ممّا زعم أنّه منسوخ التلاوة وقال: «لأنّ خبر الواحد لا يثبت القرآن»(3).
ومثله أبو جعفر النحّاس(4) حيث قال: «وإسناد الحديث صحيح، إلاّ أنّه ليس حكمه حكم القرآن الذي نقله الجماعة عن الجماعة، ولكنّه سُنّة ثابتة…»(5).
ورأينا أنّ أُبَيّا وابن مسعود قد أثبتا في مصحفهما آية «لو كان لابن آدم واديان…» وأضاف أبو موسى الأشعري: إنّه كان يحفظ سورة من القرآن فنسيها إلاّ هذه الآية.
ولو لم تكن الآية من القرآن حقيقة ـ بحسب تلك الأحاديث ـ لَما أثبتاها، ولَما قال أبو موسى ذلك.
وقد جعل الشوكاني هذه الآية مثالاً للقسم الخامس من الأقسام الستّة حسب تقسيمه للنسخ، وهو: «ما نسخ رسمه لا كلمه ولا يعلم الناسخ له».
و «السادس: ناسخ صار منسوخاً وليس بينهما لفظ متلوّ».
ثم قال: «قال ابن السمعاني: وعندي أن القسمين الأخيرين ـ أي الخامس والسادس ـ تكلّف، وليس يتحقّق فيهما النسخ»(6).
ورأينا قول أُبَيّ بن كعب لزرّ بن حبيش في سورة الأحزاب: «قد رأيتها، وإنّها لتعادل سورة البقرة، ولقد قرأنا فيها: الشيخ والشيخة… فرفع ما رفع».
فهل كان أُبَيّ يقصد من قوله: «فرفع ما رفع» ما نسخت تلاوته؟!
ورأينا قول عبدالرحمن بن عوف لعمر بن الخطّاب حين سأله عن آية الجهاد: «أُسقطت فيما أُسقط من القرآن» فسكت عمر، الأمر الذي يدلّ على قبوله ذلك.
فهل يعبّر عمّا نسخت تلاوته بـ«أُسقطت فيما أُسقط من القرآن»؟!
ورأينا قول عائشة بأنّ آية الرضاع كانت ممّا يُقرأ من القرآن بعد وفاة النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وأنّها كانت في رقعة تحت سريرها… فهل كانت تعني ما نُسخت تلاوته؟ ومتى كان النسخ؟
وهنا قال أبو جعفر النحّاس: «فتنازع العلماء هذا الحديث لما فيه من الإشكال، فمنهم من تركه وهو مالك بن أنس ـ وهو راوي الحديث ـ ولم يروه عن عبداللّه سواه، وقال: رضعة واحدة تحرّم، وأخذ بظاهر القرآن، قال اللّه تعالى: (وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ)، وممّن تركه: أحمد بن حنبل وأبو ثور، قالا: يحرم ثلاث رضعات لقول النبي ـ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ـ : «لا تحرّم المصّة ولا المصّتان».
قال أبو جعفر: وفي هذا الحديث لفظة شديدة الإشكال وهو قولها: «فتوفي رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ـ وهنّ ممّا نقرأ في القرآن» فقال بعض أجلّة أصحاب الحديث: قد روى هذا الحديث رجلان جليلان أثبت من عبداللّه بن أبي بكر، فلم يذكرا هذا فيها، وهما: القاسم ابن محمد بن أبي بكر الصدّيق ويحيى بن سعيد الأنصاري.
وممّن قال بهذا الحديث وأنّه لا يحرم إلاّ بخمس رضعات: الشافعي.
وأمّا القول في تأويل: «وهنّ ممّا نقرأ في القرآن، فقد ذكرنا ردّ من ردّه، ومن صحّحه قال: الذي نقرأ من القرآن: (وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) وأمّا قول من قال: إنّ هذا كان يقرأ بعد وفاة رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه وآله ـ فعظيم، لأنّه لو كان ممّا يقرأ لكانت عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ قد نبّهت عليه، ولكان قد نقل إلينا في المصاحف التي نقلها الجماعة الّذين لا يجوز عليهم الغلط، وقد قال اللّه تعالى: (إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحافِظُونَ) وقال: (إنّ علينا جمعه وقرآنه)، ولو كان بقي منه شيء لم ينقل إلينا، لجاز أن يكون ممّا لم ينقل ناسخاً لما نقل، فيبطل العمل بما نقل ونعوذ باللّه من هذا فإنّه كفر»(7).
(1) البرهان، النوع الرابع والثلاثون، 2 : 36، الإتقان في علوم القرآن، النوع السابع والأربعون 3 : 85 .
(2) وهو: محمد بن عبداللّه بن ظفر المكي، له: ينبوع الحياة في تفسير القرآن، توفي سنة 565. وفيات الأعيان 4 : 395، الوافي بالوفيات 1 : 125 وغيرهما.
(3) البرهان، النوع الرابع والثلاثون 2 : 39، الإتقان 2 : 26.
(4) وهو: أبو جعفر أحمد بن محمد النحّاس، المتوفى سنة 338، وفيات الأعيان 1 : 99، النجوم الزاهرة 3 : 344.
(5) الناسخ والمنسوخ: 8.
(6) إرشاد الفحول، الباب التاسع في النسخ: 189 ـ 190.
(7) الناسخ والمنسوخ: 10 ـ 11.