الكلام حول الصحيحين
والحقيقة… أنّا لم نفهم حتى الآن السبب في تخصيص هذا الشأن بالكتابين، وذكر تلك الفضائل لهما(1) دون غيرهما من كتب المصنّفين!!
ألم يصنّف مشايخ الرجلين وأئمّة الحديث من قبلهما في الحديث؟!
ألم يكن في المتأخّرين عنهما من هو أعرف بالحديث الصحيح منهما؟!
أليس قد فضّل بعضهم كتاب أبي داود على البخاري، وقال الخطابي: «لم يصنّف في علم الحديث مثل سنن أبي داود، وهو أحسن وضعاً وأكثر فقهاً من الصحيحين»(2)؟!
أليس قد قال ابن الأثير: «في سنن الترمذي ما ليس في غيرها من ذكر المذاهب ووجوه الإستدلال وتبيين أنواع الحديث من الصحيح والحسن والغريب»؟!
أليس قد قيل في النسائي: إنّ له شرطاً في الرجال أشدّ من شرط البخاري ومسلم؟!(3)
أليس قد وصف غير الكتابين من كتب الحديث بما يقتضي الترجيح عليهما؟!
إنّه لم يكن للرجلين هذا الشأن في عصرهما وبين أقرانهما… فلماذا هذا التضخيم لهما فيما بعد؟!
لا ندري… هل للسياسة دور في هذه القضية كما كان في قضية حصر المذاهب؟ أو أنّ شدّة تعصّبهما ضدّ أهل البيت عليهم السلام هو الباعث لترجيح أبناء السُنّة كتابيهما على سائر الكتب؟!
لكنّي أرى أنّ السبب كلا الأمرين… لأنّ السلطات ـ في الوقت الذي كانت تضيّق على أئمّة أهل البيت عليهم السلام وتلامذتهم ورواة حديثهم وعلماء مدرستهم ـ كانت تدعو إلى عقائد المخالفين لهم وتروّج كتبهم وتساعد على نشرها… ومن الطبيعي أن يتقدّم كلّ من كان أكثر عداوة وأشدّ تعصّباً في هذا الميدان… .
قال السيد شرف الدين: «… وأنكى من هذا كلّه عدم احتجاج البخاري في صحيحه بأئمّة أهل البيت النبوي، إذ لم يرو شيئاً عن الصادق والكاظم والرضا والجواد والهادي والزكي العسكري وكان معاصراً له، ولا روى عن الحسن بن الحسن، ولا عن زيد بن علي بن الحسين، ولا عن يحيى بن زيد، ولا عن النفس الزكيّة محمد بن عبداللّه الكامل ابن الحسن الرضا بن الحسن السبط، ولا عن أخيه إبراهيم بن عبداللّه، ولا عن الحسين الفخّي ابن علي بن الحسن بن الحسن، ولا عن يحيى بن عبداللّه بن الحسن، ولا عن أخيه إدريس بن عبداللّه، ولا عن محمد بن جعفر الصادق، ولا عن محمد بن إبراهيم بن إسماعيل ابن إبراهيم بن الحسن بن الحسن المعروف بابن طباطبا، ولا عن أخيه القاسم الرسي، ولا عن محمد بن محمد بن زيد بن علي، ولا عن محمد بن القاسم بن علي بن عمر الأشرف بن زيد العابدين صاحب الطالقان المعاصر للبخاري، ولا عن غيرهم من أعلام العترة الطاهرة وأغصان الشجرة الزاهرة، كعبداللّه بن الحسن وعلي بن جعفر العريضي وغيرهما من ثقل رسول اللّه وبقيته في أُمته ـ صلّى اللّه عليه وآله ـ حتّى أنه ولم يرو شيئاً من حديث سبطه الأكبر وريحانته من الدنيا أبي محمد الحسن المجتبى سيّد شباب أهل الجنّة، مع احتجاجه بداعية الخوارج وأشدّهم عداوة لأهل البيت عمران بن حطّان القائل في ابن ملجم وضربته لأمير المؤمنين عليه السلام:
يا ضربةً من تقيّ ما أرادَ بها *** إلاّ ليبلغَ مِن ذي العرش رِضوانا
إني لأذكُره يوماً فأحسبه *** أوفى البريّة عند اللّه ميزانا»(4)
نعم… هكذا فعلت السلطات… والعلماء والمحدّثون… المتربّعون على موائدهم، والسائرون في ركابهم، الآخذون منهم مناصبهم ورواتبهم، يتسابقون في تأييد خططهم وتوجيهها، تزلّفاً إليهم وتقرّباً منهم… حتى بلغ الأمر بهم إلى وضع الفضائل للكتابين ومؤلفيهما… ثم دعوى الإجماع على قطعيّة أحاديثهما، وعلى تلقّي الأُمّة إيّاها بالقبول… ثم القول بأنّ كلّ مَن يهوّن أمرهما فهو مبتدع متّبع غير سبيل المؤمنين.
تماماً كالذي فعلوا ـ بوحي من السلطات ـ في قضية حصر المذاهب، حيث أفتوا بحرمة الخروج عن تقليد الأربعة، مستدلّين بالإجماع، فعُودي من تمذهب بغيرها، وأُنكر عليه، ولم يولّ قاض ولا قُبلت شهادة أحد ما لم يكن ملّقداً لأحد هذه المذاهب.
لقد كان التعصّب ضدّ أهل البيت الأطهار عليهم السلام، أكبر وسيلة للتقرّب إلى الحكّام وللحصول على الجاه والمقام… في بعض الأدوار… فكلّما كان التعصّب أشدّ وأكثر كان صاحبه أفضل وأشهر… ولذا تراهم يقدّمون كتاب البخاري ـ بالرغم من أنّ لكتاب مسلم مزايا لأجلها قال جماعة بأفضليّته ـ لأنّه لم يخرّج ما أخرجه مسلم من مناقب أهل البيت كحديث الثقلين… وتراهم يقدحون في الحاكم وفي مستدركه على الصحيحين… لأنّه أخرج فيه منها ما لم يخرجاه… وإن كان واجداً لكلّ ما اشترطاه.
ويشهد بذلك تضعيفهم الحديث الوارد فيهما إذا كان فيه دلالة أو تأييد لمذهب الشيعة… كما طعن ابن الجوزي وابن تيميّة في حديث الثقلين… وطعن الآمدي ومن تبعه في حديث: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى»… المخرّج في الصحيحين.
فهذا هو الأصل في كلّ ما ادّعوا في حقّ الكتابين… إنّه ليس إلاّ التعصّب… وإلاّ فإنّهما يشتملان على الصحيح وغيره كسائر الكتب، وصاحباهما محدّثان كسائر الرجال… فها هنا مقامات ثلاثة:
(1) ذكروا للبخاري خاصّة ما لا يصدّق، ففي مقدّمة فتح الباري ـ ص 11 ـ : ذكر الإمام القدوة أبو محمد بن أبي جمرة في اختصاره للبخاري، قال: قال لي من لقيته من العارفين ممّن لقي من السادة المقرّ لهم بالفضل: إنّ صحيح البخاري ما قرئ في شدّة إلاّ فرّجت، ولا ركب به في مركب فغرق; قال: وكان مجاب الدعوة وقد دعا لقارئه» وفيها ـ ص 490 ـ : قال شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي ـ فيما قرأنا على فاطمة وعائشة بنتي محمد بن الهادي ـ : إنّ أحمد بن أبي طالب أخبرهم، عن عبداللّه بن عمر بن علي، أنّ أبا الوقت أخبرهم عنه سماعاً، أخبرنا أحمد بن محمد بن إسماعيل الهروي، سمعت خالد بن عبداللّه المروزي، يقول: سمعت أبا سهل محمد بن أحمد المروزي، يقول: سمعت أبا زيد المروزي، يقول: كنت نائماً بين الركن والمقام فرأيت النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في المنام فقال لي: يا أبا زيد، إلى متى تدرس كتاب الشافعي ولا تدرس كتابي؟! فقلت: يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وما كتابك؟! قال: جامع محمد بن إسماعيل.
(2) ذكره الأدفوي في عبارته الآتية.
(3) البداية والنهاية 11 : 123، تهذيب الكمال 1 : 172، طبقات الشافعية للسبكي 3 : 16، الوافي بالوفيات 6 : 417.
(4) الفصول المهمّة في تأليف الأُمّة: 168.