القول بنسخ التلاوة هو القول بالتحريف
الرابع: أنّ القول بنسخ التلاوة هو بعينه القول بالتحريف ونقصان القرآن:
«وبيان ذلك: أنّ نسخ التلاوة هذا، إمّا أن يكون قد وقع من رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ـ ، وإمّا أن يكون ممّن تصدّى للزعامة من بعده. فإن أراد القائلون بالنسخ وقوع من رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ـ فهو أمر يحتاج إلى الإثبات، وقد اتّفق العلماء أجمع على عدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد، وقد صرّح بذلك جماعة في كتب الأُصول وغيرها، بل قطع الشافعي وأكثر أصحابه وأكثر أهل الظاهر بامتناع نسخ الكتاب بالسُنّة المتواترة، وإليه ذهب أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، بل إنّ جماعة ممّن قال بإمكان نسخ الكتاب بالسُنّة المتواترة منع وقوعه، وعلى ذلك فكيف تصحّ نسبة النسخ إلى النبي ـ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ـ بأخبار هؤلاء الرواة؟
مع أنّ نسبة النسخ إلى النبي ـ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ـ تنافي جملة من الروايات التي تضمّنت أنّ الإسقاط قد وقع بعده.
وإن أرادوا أنّ النسخ قد وقع من الّذين تصدّوا للزعامة بعد النبي ـ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ـ فهو عين القول بالتحريف.
وعلى ذلك، فيمكن أن يدّعى أن القول بالتحريف هو مذهب أكثر علماء أهل السُنّة، لأنّهم يقولون بجواز نسخ التلاوة، سواء انسخ الحكم أم لم ينسخ، بل تردّد الأُصوليّون منهم في جواز تلاوة الجنب ما نسخت تلاوته، وفي جواز أن يمسّه المحدث، واختار بعضهم عدم الجواز.
نعم، ذهبت طائفة من المعتزلة إلى عدم جواز نسخ التلاوة»(1).
بل قال السيد الطباطبائي قدس سره: «إنّ اثبات منسوخ التلاوة أشنع من إثبات أصل التحريف»(2).
وقال المحقّق الأُوردبادي قدس سره: «وقد تطرّف بعض المفسّرين، فذكروا في باب النسخ أشياء غير معقولة… .
ومنها: ما ذكره بعضهم من باب نسخ التلاوة: آية الرجم… .
وهذا أيضاً من الأفائك الملصقة بقداسة القرآن الكريم من تلفيقات المتوسّعين… .
وهناك جمل تضمّنتها بطون غير واحد من الكتب التي لا تخلو عن مساهلة في النقل، فزعم الزاعمون أنّها آيات منسوخة التلاوة أو هي والحكم، نجلّ بلاغة القرآن عمّا يماثلها، وهي تذودها عن ساحة البراعة، لعدم حصولها على مكانة القرآن من الحصافة والرصافة، فمن ذلك ما روي عن أبي موسى… ومنها: ما روي عن أُبَيّ: قال: كنّا نقرأ: لا ترغبوا… .
وإنّ الحقيقة لتربأ بروعة الكتاب الكريم عن أمثال هذه السفاسف القصيّة عن عظمته، أنا لا أدري كيف استساغوا أن يعدّوها من آي القرآن وبينهما بعد المشرقين، وهي لا تشبه الجمل الفصيحة من كلم العرب ومحاوراتهم فضلاً عن أساليب القرآن الذهبية؟!
نعم، هي هنات قصد مختلقوها توهين أساس الدين والنيل من قداسة القرآن المبين، ويشهد على ذلك أنّها غير منقولة عن مثل مولانا أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ الذي هو لدة القرآن وعدله.
وإنّي لا أحسب أن يعزب عن أي متضلّع في الفضيلة حال هذه الجمل وسقوطها حتى تصل النوبة في دفعها إلى أنّها من أخبار الآحاد التي لا تفيد علماً ولا عملاً، ولا يعمل بها في الأُصول القطعيّة التي أهمّها القرآن ـ كما قيل ذلك ـ …»(3).
وقال الشيخ محمد رضا المظفّر بعد كلام له: «وبهذا التعبير يشمل النسخ: نسخ تلاوة القرآن الكريم على القول به، باعتبار أنّ القرآن من المجعولات الشرعية التي ينشئها الشارع بما هو شارع، وإن كان لنا كلام في دعوى نسخ التلاوة من القرآن ليس هذا موضع تفصيله.
ولكن باختصار نقول: إنّ نسخ التلاوة في الحقيقة يرجع إلى القول بالتحريف، لعدم ثبوت نسخ التلاوة بالدليل القطعي، سواء كان نسخاً لأصل التلاوة أو نسخاً لها ولما تضمّنته من حكم معاً، وإن كان في القرآن الكريم ما يشعر بوقوع نسخ التلاوة، كقوله تعالى: (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَة وَاللّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَر) وقوله تعالى: (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَة أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْر مِنْها أَوْ مِثْلِها)ولكن ليستا صريحتين بوقوع ذلك، ولا ظاهرتين، وإنّما أكثر ما تدلّ الآيتان على إمكان وقوعه»(4).
هذا كلّه فيما يتعلّق بالآيات والسور التي زعموا سقوطها من القرآن… .
(1) البيان في تفسير القرآن: 205 ـ 206.
(2) الميزان في تفسير القرآن 12 : 120، سورة الحجر، الآية 1 ـ 9.
(3) بحوث في علوم القرآن ـ مخطوط ـ .
(4) أُصول الفقه 2: 53.