الفصل الخامس
مشهوران لا أصل لهما
* صحّة أخبار البخاري ومسلم
* عدالة الصّحابة أجمعين
لقائل أن يقول: لقد أوضحت ما كان غامضاً من أمر التحريف والقائلين به… ولكنّ بحثك يشتمل على التجهيل والتفسيق لبعض الصحابة، والطعن في الصحيحين، وهذا خلاف مذهب جمهور أبناء السُنّة في المسألتين!!
وأقول: نعم… إنّ المشهور بين أهل السُنّة هو القول بصحّة أخبار كتب اشتهرت بالصحاح… فقالوا بصحّة كتب: البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وابن ماجة وأبي داود… وهذه هي الكتب المعروفة عندهم بالصحاح… ومنهم من زاد عليها الموطّأ، أو نقص منها سنن ابن ماجة… لكن لا كلام بينهم في كتابَي البخاري ومسلم، بل ادّعي الإجماع على صحّة ما في هذين الكتابين وأنّهما أصحّ الكتب بعد القرآن المبين ـ وإن اختلفوا في ترجيح أحدهما على الآخر ـ بل ادّعى جماعة منهم القطع بأحاديثهما، وعلى هذا الأساس قالوا بأنّ من روى له الشيخان فقد جاز القنطرة(1).
قال ابن حجر المكّي: «روى الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما اللذين هما أصحّ الكتب بعد القرآن بإجماع من يعتدّ به»(2).
وقال أبو الصلاح: «أوّل من صنّف في الصحيح: البخاري أبو عبداللّه محمد ابن إسماعيل، وتلاه أبو الحسين مسلم بن الحجّاج القشيري، ومسلم مع أنّه أخذ عن البخاري واستفاد منه فإنّه يشارك البخاري في كثير من شيوخه، وكتاباهما أصحّ الكتب بعد كتاب اللّه العزيز»(3).
وقال الجلال السيوطي: «وذكر الشيخ ـ يعني ابن الصلاح ـ أنّ ما روياه أو أحدهما فهو مقطوع بصحّته، والعلم القطعي حاصل فيه. قال: خلافاً لمن نفى ذلك محتجّاً بأنّه لا يفيد إلاّ الظنّ، وإنّما تلقّته الأُمّة بالقبول لأنّه يجب عليهم العمل بالظنّ والظنّ قد يخطئ. قال: وقد كنت أميل إلى هذا وأحسبه قويماً، ثمّ بان لي أن الذي اخترناه أوّلاً هو الصحيح، لأنّ ظنّ من هو معصوم من الخطأ لا يخطئ، والأُمّة في إجماعها معصومة من الخطأ، ولهذا كان الإجماع المبني على الإجتهاد حجّة مقطوعاً بها، وقد قال إمام الحرمين: لو حلف إنسان بطلاق امرأته أنّ ما في الصحيحين ـ ممّا حكما بصحّته ـ من قول النبي ـ صلّى اللّه عليه وسلّم ـ لما ألزمته الطلاق، لإجماع علماء المسلمين على صحّته… .
قال المصنّف: وخالفه المحقّقون والأكثرون فقالوا: يفيد الظنّ ما لم يتواتر. قال في شرح مسلم: لأنّ ذلك شأن الآحاد، ولا فرق في ذلك بين الشيخين وغيرهما، وتلقّي الأُمّة بالقبول إنّما أفاد وجوب العمل بما فيهما من غير توقّف على النظر فيه، بخلاف غيرهما فلا يعمل به حتى ينظر فيه ويوجد فيه شروط الصحيح، ولا يلزم من إجماع الأُمّة على العمل بما فيهما إجماعهم على القطع بأنّه كلام النبي ـ صلّى اللّه عليه وسلّم ـ . قال: وقد اشتدّ إنكار ابن برهان على من قال بما قاله الشيخ، وبالغ في تغليطه.
وكذا عاب ابن عبدالسلام على ابن الصلاح هذا القول وقال: إنّ بعض المعتزلة يرون أنّ الأُمّة إذا عملت بحديث اقتضى ذلك القطع بصحّته، قال: وهو مذهب رديء.
وقال البلقيني: ما قاله النووي وابن عبدالسلام ومن تبعهما ممنوع، فقد نقل بعض الحفّاظ المتأخّرين مثل قول ابن الصلاح عن جماعة من الشافعية، كأبي إسحاق وأبي حامد الإسفرانيّين، والقاضي أبي الطيّب، والشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وعن السرخسي من الحنفية، والقاضي عبدالوهّاب من المالكية، وأبي يعلى وأبي الخطاب وابن الزاغواني من الحنابلة، وابن فورك وأكثر أهل الكلام من الأشعرية، وأهل الحديث قاطبة، ومذهب السلف عامّة. بل بالغ ابن طاهر المقدسي في صفة التصوّف فألحق به ما كان على شرطهما وإن لم يخرجاه. وقال شيخ الإسلام: ما ذكره النووي مسلّم من جهة الأكثرين، أمّا المحقّقون فلا. وقد وافق ابن الصلاح أيضاً محقّقون… وقال ابن كثير: وأنا مع ابن الصلاح فيما عوّل عليه وأرشد إليه.
قلت: وهو الذي أختارُهُ ولا أعتقدُ سواه»(4).
وقال أحمد بن عبدالرحيم الدهلوي في (حجة اللّه البالغة): «وأمّا الصحيحان، فقد اتّفق المحدّثون على أن جميع ما فيهما من المتّصل المرفوع صحيح بالقطع، وأنّهما متواتران إلى مصنّفيهما، وأنّ كلّ من يهوّن أمرهما فهو مبتدع متّبع غير سبيل المؤمنين»(5).
أقول: إنّ البحث عن «الصحيح» و«الصحاح» و«الصحيحين» طويل عريض لا نتطرّق هنا إليه، عسى أن نوفّق لتأليف كتاب فيه… لكنّا نقول بأنّ الحقّ مع من خالف ابن الصلاح، وأنّ ما ذكره الدهلوي مجازفة، وأنّ الإجماع على أحاديث الصحيحين(6) غير قائم… نعم… ذاك هو المشهور… لكنّه لا أصل له… وسنبيّن هذا بإيجاز:
(1) المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجّاج، مقدّمة الكتاب.
(2) الصواعق المحرقة: 9، الباب الأول، الفصل الأول.
(3) علوم الحديث لأبي الصلاح، النوع الأول، الحديث الصحيح 17 ـ 18، وعنه في مقدّمة فتح الباري 10.
(4) تدريب الراوي، شرح تقريب النواوي 79 ـ 81، النوع الأول تحقيق شرط البخاري ومسلم.
(5) حجّة اللّه البالغة 1 / 134.
(6) ونخصّ الصحيحين بالبحث، لأنّه إذا سقط ما قيل في حقّهما سقط ما قيل في حق غيرهما بالأولوية، ونعبّر عنهما بالصحيحين لأنّهما موسومان بهذا الاسم.