من الأباطيل والموضوعات في الموطأ
وكيف يطمئنّ بروايات من هذا حاله وبكتابه؟ وكيف يقال بصحّة كتاب ربع رواياته ـ تقريباً ـ عن هشام بن عروة الذي قال مالك عنه: «كذّاب» كما تقدّم؟
بل لقد ذكر الغزالي أنّه «كان أحمد بن حنبل ينكر على مالك في تصنيفه الموطأ ويقول: ابتدع مالم يفعله الصحابة»(1).
وفي هذا الكتاب أباطيل وموضوعات كثيرة، نكتفي بإيراد بعضها:
حديث لا نورّث
(فمنها) حديثه: «عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة: «إنّ أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم حين توفي رسول الله أردن أن يبعثن عثمان ابن عفّان إلى أبي بكر الصدّيق فيسألنه ميراثهنّ من رسول الله. فقالت لهنّ عائشة: أليس قد قال رسول الله: لا نورّث ما تركناه صدقة»(2).
فقد تقدّم سابقاً: أنّ أميرالمؤمنين عليه السلام كذّب هذا الحديث، وكيف يصدق ما كذّبه علي؟
على أنّ أبابكر نفسه أيضاً يكذّبه، فقد جاء في الأحاديث الصحيحة تصريحه بأنّ الوارث لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أهله وليس غيرهم:
أخرج أحمد بإسناده عن أبي الطفيل قال: «لمّا قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أرسلت فاطمة إلى أبي بكر: أنت ورثت رسول الله أم أهله؟ قال: فقال: لا بل أهله. قالت: فأين سهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: فقال أبوبكر: إنّي سمعت رسول الله…»(3).
وقد رواه المتّقي عن جماعة من الأئمّة: أحمد في المسند، وأبي داود، وابن جرير والبيهقي(4).
والمحبّ الطبري تحت عنوان «ذكر اقتفائه آثار النبوّة واتّباعه إيّاها»(5).
فهذا الحديث صريحٌ في أنّه كان يرى أنّ لرسول الله إرثاً ووارثاً.
بل لقد روي أنّه لمّا قالت له ذلك نزل عن المنبر وكتب لها كتاباً بفدك…
قال سبط ابن الجوزي: «قال علي بن الحسين رضي الله عنهما: جاءت فاطمة بنت رسول الله إلى أبي بكر ـ وهو على المنبر ـ فقالت: يا أبابكر، أفي كتاب الله أن ترثك ابنتك ولا أرث أبي؟ فاستعبر أبوبكر باكياً ثمّ قال: يا بأبي أنتِ، ثمّ نزل فكتب لها بفدك. ودخل عليه عمر فقال: ما هذا؟ فقال: كتاب كتبته لفاطمة ميراثها من أبيها. قال: فماذا تنفق على المسلمين وقد حاربتك العرب كما ترى؟ ثمّ أخذ عمر الكتاب فشقّه»(6).
فظهر أنّ الحديث المذكور كذب مفترى.
حديث ولاء بريرة
(ومنها) الحديث: «مالك: عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّها قالت: جاءت بريرة فقالت: إنّي كاتبت أهلي على تسع أواق في كلّ عام أوقية فأعينيني، فقالت عائشة: إنْ أحبّ أهلك أن أعدّها لهم عنك عددتها، ويكون لي ولاؤك، فعلت. فذهبت بريرة إلى أهلها، فقالت ذلك لهم، فأبوا عليها، فجاءت من عند أهلها ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس، فقالت لعائشة: إنّي قد عرضت عليهم ذلك فأبوا عليّ، إلاّ أنْ يكون الولاء لهم، فسمع ذلك رسول الله، فسألها فأخبرته عائشة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنّما الولاء لمن أعتق… »(7).
وقد أنكر هذا الحديث بعض العلماء:
منهم: قاضي قضاتهم يحيى بن أكثم، فقد جاء بشرحه في (عمدة القاري): «الموضع الثاني: قوله عليه الصلاة والسلام: اشتريها. إلى آخره. مشكل، من حيث الشراء وشرط الولاء لهم وإفساد البيع بهذا الشرط ومخادعة البايعين وشرط ما لا يصحّ لهم ولا يحصل لهم وكيفيّة الإذن لعائشة. ولهذا الإشكال أنكر بعض العلماء هذا الحديث بجملته، وهذا منقول عن يحيى بن أكثم…»(8).
ومنهم: الشافعي، قال ابن حجر في (الفتح): «واستشكل صدور الإذن منه في البيع على شرط فاسد. واختلف العلماء في ذلك، فمنهم من أنكر الشرط في الحديث، فروى الخطابي في المعالم بسنده إلى يحيى بن أكثم أنّه أنكر ذلك، وعن الشافعي في الاُم الإشارة إلى تضعيف رواية هشام المصرّحة بالإشتراط، لكونه انفرد بها دون أصحاب أبيه، وروايات غيره قابلة للتأويل…»(9).
حديث انتقاض الوضوء بمسّ الذكر
(ومنها) حديثه في انتقاض الوضوء بمسّ الذكر، الذي أبطله كبار علماء القوم، وهو: «مالك: عن عبدالله بن أبي بكر بن محمّد بن عمرو بن حزم: أنّه سمع عروة بن الزبير يقول: دخلت على مروان بن الحكم، فتذاكرنا ما يكون منه الوضوء، فقال مروان: ومن مسّ الذكر الوضوء. فقال عروة: ما علمت هذا، فقال مروان: أخبرتني بسرة بنت صفوان أنّها سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إذا مسّ أحدكم ذكره فليتوضّأ»(10).
فهذا الحديث ردّوه بوجوه عقلية ونقليّة كثيرة، وأقاموا البراهين الجليّة على كذبه وبطلانه، بل لم يستدل به القائلون بهذا القول أيضاً، لكون راويه مروان بن الحكم الفاسق الفاجر.
وقال الشيخ عبدالعلي الأنصاري في (الأركان الأربعة):
«ولا ينقض مسّ الذكر الوضوء عندنا، وقال الإمام الشافعي: وإن مسّ بلا حائل ينقض، وكذا عند الإمام مالك. وقال الإمام أحمد في رواية: ينقض مسّ الرجل ذكره ودبره ومسّ المرأة فرجها.
وحجّتهم ما روى الإمام الشافعي عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره ليس بينه وبينها حجاب فليتوضّأ. قال في فتح القدير: إسناده مضعّف.
وبما روى النسائي عن بسرة بنت صفوان أنّها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مسّ ذكره فليتوضّأ.
وتحقيق حال هذا الحديث: قال مشايخنا في اُصول الفقه: إنّ مسّ الذكر ممّا يتكرّر به البلوى ويبتلي به كلّ أحد من الرجال، ولم يطّلع عليه أحد من الرجال مع حاجتهم إلى معرفة حكم مسّ الذكر، واطّلعت عليه امرأة غير محتاجة إلى معرفة حكم مسّ الذكر، وهذا في غاية البعد.
وقد قال الطحاوي: ولا نعلم أحداً من الصحابة أفتى بوجوب الوضوء من مسّ الذكر إلاّ ابن عمر ولم يتمسّك هو أيضاً بهذا الحديث.
وقال في فتح القدير: وقد ثبت عن أميرالمؤمنين علي وعمّار وابن مسعود وحذيفة وعمران بن الحصين وأبي الدرداء وسعد بن أبي وقاص رضوان الله عليهم أنّهم لا يرون النقض منه، ولو كان هذا الحديث ثابتاً لكان لهم معرفة بذلك، والقائلون بنقض الوضوء من مسّ الذكر لم يستدلّوا بذاك الحديث، ولم يقل أحد إنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وروى من روى عن بسرة، ويبعد كلّ البعد أن يُلقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حكماً إلى من لا يحتاج إليه ولا يلقي إلى من يحتاج إليه، فعلم أنّ فيه انقطاعاً باطناً والحديث غير صحيح.
ثمّ ينظر في سنده، فروى الإمام مالك في الموطأ عن محمّد بن عمرو ابن حزم قال: سمعت عروة يقول: دخلت على مروان فتذاكرنا ما يكون فيه الوضوء فقال مروان: من مسّ الذكر فليتوضّأ. فقال عروة: ما علمت هذا. فقال: أخبرتني بسرة بنت صفوان أنّها سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إذا مسّ أحدكم ذكره فليتوضّأ.
وأخرج أبو داود والترمذي رواية الموطأ وللنسائي نحوه وفيه: وقال عروة: ولم أزل اُماري مروان حتّى دعى رجلاً من حرسه، فأرسل إلى بسرة وسألها عمّا حدّثت من ذلك، فأرسلت إليه بسرة مثل الذي حدّثني عنها مروان، كذا في جامع الاُصول.
فقد علم من ذلك أنّ عروة لم يسمع من بسرة، إنّما سمع من شرطي مروان، والشرطي مجهول لا يقوم روايته حجّة.
وأمّا مروان، وإن قبله جماعة من المحدّثين وكتبوا روايته في صحاحهم ومسانيدهم، لكن مروان ـ في الإنصاف ـ لم يكن قابلاً لقبول شهادته وروايته، وقد تواتر عنه أفعال أعاذنا الله عنها وجميع المسلمين، وإنّه قد احتال حيلاً ومكراً عظيماً في خلافة أميرالمؤمنين عثمان وهو غير شاعر، حتّى انجرّ إلى أنّ الأشقياء قتلوه، فقتل شهيداً مظلوماً.
ثمّ هو كان شريكاً للذين جاءوا لتخريب المدينة في زمان يزيد الشقي، حتّى أعانهم، وغدر هو وغدروا بأهل المدينة وفعلوا ما فعلوا; فإن كان عنده هذا الصنع حراماً ـ كما هو في الواقع ـ فهو فاسق معلن، فلا تقبل روايته بل لا يكتب حديثه، وإن كان يزعم هذا الصنع مباحاً لشبهة عرضت له كشبهة الخوارج، فهو من أهل الأهواء، ثمّ كان هو داعياً إلى هذا الصنع فهو مبتدع داع إلى بدعته، ورواية المبتدع الداعي إلى بدعته غير مقبول ولا صالح للكتابة بالإجماع، ثمّ ملاحظة هذه القصّة في التواريخ المعتبرة يحكم أنّه قد ارتكب كذباً، والمبتدع الكاذب ـ وإن كان مستحلاًّ للكذب ـ لا يقبل روايته بالإجماع.
ثمّ كان هو يسبُّ أميرالمؤمنين عليّاً في المجالس بل على المنبر، والمبتدع المظهر سبّ السلف مردود الشهادة والرواية باتّفاق الاُمّة، بخلاف الكاتم، فإنّه يقبل شهادته عندنا إن كان مجتنباً عن الكبائر في زعمه وعن الكذب، ويقبل روايته أيضاً عند أكثر أهل الحديث بذلك الشرط، وعند محقّقي أصحابنا لا تقبل روايته أصلاً وهو الحقّ، وقد بيّنّا في فواتح الرحموت شرحنا للمسلّم.
وإذ قد علمت أنّ هذا الحديث المروي عن بسرة غير صحيح ألبتّة، وحديث أبي هريرة أيضاً ضعيف، فلم يدلّ دليل على نقض مسّ الذكر، فيبقى على أصله غير ناقض كمسّ سائر الأعضاء».
وقال الزرقاني المالكي: «… هو على شرط البخاري، وإنْ كان المخالف يقول: إنه من رواية مروان، ولا صحبة له ولا كان من التابعين بإحسان… وزعم الحنفيّة أن مسّ الذكر في حديث بسرة كناية عمّا يخرج منه… وقالوا أيضاً: إن خبر الواحد لا يعمل به فيما يعمّ به البلوى…»(11) .
هذا، وسيأتي في فصل (مسائل فقهيّة) البحث عن هذه المسألة، وفيه الكلام على حديث مروان، وطعن يحيى بن معين فيه.
حديث تحريم المتعة يوم خيبر
(ومنها) حديثه: «عن ابن شهاب، عن عبدالله والحسن ابني محمّد بن علي، عن أبيهما، عن علي بن أبي طالب: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسيّة»(12).
وهو حديث باطل لوجوه:
الأول: لقد نصّ علماء القوم على بطلان القول بتحريم النبي صلّى الله عليه وآله المتعة يوم خيبر، وقد تقدم الإيماء إلى قول صاحب (التحفة) بأنّ هذه الدعوى تشهد بجهل وحمق مدّعيها(13).
الثاني: إنّ أميرالمؤمنين عليه السلام كان على رأس القائلين بحليّة المتعة، قال الرازي: «أمّا أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب، فالشيعة يروون عنه إباحة المتعة، وروى محمّد بن جرير الطبري في تفسيره عن علي رضي الله عنه أنّه قال: لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنا إلاّ شقي»(14).
وفي (الدر المنثور) بتفسير (فما استمتعتم…) الآية: «أخرج عبدالرزاق وأبو داود في ناسخه وابن جرير عن الحكم أنّه سئل عن هذه الآية أمنسوخة؟ قال: لا. وقال علي: لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنا إلاّ شقي»(15).
ورواه المتقي كذلك عن الثلاثة(16).
الثالث: إنّ فتوى مالك نفسه بإباحة المتعة تكذّب هذا الحديث، وقد ذكرت فتواه هذه في كتب القوم، نذكر بعضها:
قال المرغيناني: «ونكاح المتعة باطل، وهو أنْ يقول لامرأة: أتمتّع بك كذا مدّة بكذا من المال. وقال مالك رحمه الله: هو جائز، لأنّه كان مباحاً فيبقى إلى أنْ يظهر ناسخه»(17).
وقال أبوالبركات النسفي في (كنز الدقائق) : «ويبطل نكاح المتعة، خلافاً لمالك، صورة المتعة أنْ يقول الرجل لامرأة: خذي هذه العشرة لأتمتّع بك أيّاماً. وقال مالك رحمه الله: هو جائز».
قال الزيلعي بشرحه: «وقال مالك هو جائز، لأنّه كان مشروعاً، فيبقى إلى أنْ يظهر ناسخه. واشتهر عن ابن عبّاس تحليلها، وتبعه على ذلك أكثر أصحابه من أهل اليمن ومكّة».
وقال العيني بشرحه: «وقال مالك هو جائز، لأنّه كان مشروعاً، واشتهر عن ابن عبّاس تحليلها».
وقال أكمل الدين البابرتي بشرح الهداية:
«قال: ونكاح المتعة باطل. صورة المتعة ما ذكره في الكتاب أن يقول الرجل لامرأة: أتمتّع بك كذا مدّة بكذا من المال، أو يقول: خذي منّي هذه العشرة لأتمتّع بك أيّاماً، أو متّعيني نفسك أيّاماً أو عشرة أيّام، أو لم يقل أيّاماً. وهذا عندنا باطل. وقال مالك رحمه الله: هو جائز، وهو الظاهر من قول ابن عبّاس رضي الله عنه. لأنّه كان مباحاً بالاتّفاق فيبقى إلى أنْ يظهر ناسخه…
وقيل: في نسبة جواز المتعة إلى مالك نظر، لأنه روى الحديث في الموطّأ عن ابن شهاب عن عبدالله والحسن ابني محمّد بن علي عن أبيهما عن عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسيّة. وقال في المدوّنة: ولا يجوز النكاح إلى أجل قريب أو بعيد وإنْ سمّي صداقاً، وهذه المتعة.
وأقول: يجوز أن يكون شمس الأئمّة الذي أخذ منه المصنّف، قد اطّلع على قول له على خلاف ما في المدوّنة، وليس كلّ من يروي حديثاً يكون واجب العمل، لجواز أن يكون عنده ما يعارضه أو يرجّح عليه»(18).
(1) إحياء علوم الدين 1: 79.
(2) الموطأ 2: 993/27.
(3) مسند أحمد 1: 9/15.
(4) كنز العمّال 5: 604/14069، وورد بنحوه في مواضع عدّة.
(5) الرياض النضرة 1: 190.
(6) مرآة الزمان، ورواه عن سبط ابن الجوزي: نور الدين الحلبي في السّيرة النبوية 3: 488: باب يذكر فيه مدّة مرضه وما وقع فيه ووفاته.
(7) الموطأ 2: 780/17.
(8) عمدة القاري في شرح صحيح البخاري 13: 122.
(9) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 5: 144 ـ 145.
(10) الموطّأ 1: 42/58.
(11) شرح الموطأ 1: 152 كتاب الطهارة، باب الوضوء من مسّ الفرج .
(12) الموطأ 2: 542/41.
(13) التحفة الإثني عشرية: 303.
(14) تفسير الرازي 10: 50.
(15) الدر المنثور 2: 486.
(16) كنز العمّال 16: 522/45728.
(17) الهداية في الفقه 1: 195.
(18) العناية في شرح الهداية 3: 149 ـ 150 ط على هامش فتح القدير لابن الهمام.