معنى حديث: فالبعوضة أميرالمؤمنين…
لقد جاء في الحديث الأوّل عن (تفسير القمي) عن أبي عبدالله الصّادق عليه السلام، بتفسير قوله تعالى: (إنّ الله لا يستحيي أنْ يضرب مثلاً مّا بعوضة فما فوقها…) إنّ «البعوضة» أميرالمؤمنين عليه السلام، و«ما فوقها» هو رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلّم، فما معنى هذا التفسير الذي ربّما ذكره بعض المخالفين للتعريض بالأئمّة الأطهار والروايات المرويّة عنهم؟
إنّ معنى الحديث واضح لا سترة فيه لمن له أدنى معرفة بفنون العربيّة.
وبيان ذلك هو: إنّ «البعوضة» ضرب الله المثل بها لأميرالمؤمنين، و«ما فوقها» ضرب الله المثل به لرسول الله، فهذا معنى الخبر كما يدلّ عليه السياق، ولأجل السّياق اختصر الكلام، فكانت العبارة: فالبعوضة لأميرالمؤمنين، وما فوقها لرسول الله… ثمّ حذفت اللاّم الجارّة، وكانت الجملة: فالبعوضة أميرالمؤمنين…
وحذف اللاّم في مثل المقام شائع في كلام العرب، وقد صرّح به علماء العربيّة:
قال في (مجمع البيان): «تقول العرب: لاه أبوك، تريد لله أبوك، قال ذوالإصبع العدواني:
لاه ابن عمّك لا أفضلت في حسب *** عنّي ولا أنت ديّاني فتخزوني
أي: تسوسني.
قال سيبويه: حذفوا لام الإضافة واللاّم الاُخرى، ولا ينكر بقاء عمل اللاّم بعد حذفها، فقد حكى سيبويه من قولهم: الله لأخرجنّ، يريدون والله، ومثل ذا كثير»(1).
وعلى هذا، فإن لفظ «أميرالمؤمنين» في الرواية مجرور..، وذلك قرينة على حذف اللاّم، فاستبصر ولا تكن من الغافلين…
فالمعنى: إنّ الله تعالى ضرب مثلاً بالبعوضة لأميرالمؤمنين، أنّ المراد من البعوضة هو أميرالمؤمنين! وضرب مثلاً بما فوقها لرسول الله، لا أنّ ما فوقها هو رسول الله!
ويدلّ على هذا المعنى قوله عليه السلام في الخبر: إنّ هذا المثل ضربه الله لأميرالمؤمنين، فعليّ عليه السلام هو الذي ضرب له هذا المثل، أعني مثل البعوضة، لا أنّه المضروب به المثل في هذا الكلام.
نعم، بناء على كون خطبة البيان من كلام أميرالمؤمنين ـ كما عليه المولوي عبدالعزيز الدهلوي، صاحب (التحفة الإثني عشرية)(2) وغيره من علماء أهل السنّة، حتّى أنّ بعضهم كتب عليه شرحاً سمّاه خلاصة الترجمان في تأويل خطبة البيان ـ فقد جاء فيها: «أنا البعوضة التي ضرب الله بها المثل مثلاً»، وحينئذ يلزم على القائلين بأنّها من كلامه عليه السلام تفسيرها على وجه صحيح مقبول.
على أنّ لهذا التمثيل نظائر في كتب القوم، فقد رووا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه شبّه الإمام الحسن أو الإمام الحسين بالبقّة وهي البعوضة، قال الدميري:
«وقد ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم البق في حديث رواه الطبراني بإسناد جيّد عن أبي هريرة قال: سمعت اُذناي وأبصرت عيناي هاتان رسول الله وهو آخذ بيديه جميعاً حسناً أو حسيناً، وقدماه على قدمي رسول الله وهو يقول:
خرقة خرقة *** ترقَّ عين بقّة
فيرقى الغلام، فتقع قدماه على صدر رسول الله.
ثمّ قال: افتح فاك، ثمّ قبّله ثمّ قال: اللّهمّ من أحبّه فإنّي اُحبّه.
ورواه البزّار ببعض هذه الألفاظ.
والخرقة الضعيف المتقارب الخطوة، ذكر ذلك له رسول الله على سبيل المداعبة والتأنيس، وترقّ معناه إصعد، وعين بقّة كناية عن صغر العين، مرفوع على أنّه خبر مبتدء محذوف»(3).
ورووا عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم تشبيه نفسه الشريفة للحسنين عليهما السلام بالجمل، رواه الشهاب الدولت آبادي في (هداية السعداء) عن كتاب (شرف النبوّة) قال «قال جابر بن عبدالله: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يمشي على أربع والحسن والحسين على ظهره وهو يقول: نعم الجمل جملكما ونعم الراكبان أنتما»(4).
وفي (المصابيح):
«قال ابن عبّاس: جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو حامل الحسن على عاتقه، فقال رجل: نعم المركب ركبت يا غلام، فقال: نعم الراكب هو»(5).
بل لقد رووا عن الله سبحانه أنّه شبّه نفسه بالدجاجة!! قال السيوطي:
«أخرج أحمد في الزهد عن خالد بن ثابت الربعي قال: لمّا قتل فجرة بني إسرائيل يحيى بن زكريّا، أوحى الله إلى نبيّ من أنبيائهم أن قل لبني إسرائيل: إلى متى تجترؤن على أنْ تعصوا أمري وتقتلوا رسلي، حتّى متى أضمّكم في كنفي كما تضمّ الدجاجة أولادها في كنفها فتجترون عليَّ؟ اتّقوا لأخذكم بكلّ دم كان بين بني آدم ويحيى بن زكريّا، واتّقوا أنْ أضرب عنكم وجهي، فإنّي إنْ صرفت عنكم وجهي لم اُقبل عليكم إلى يوم القيامة»(6).
بل لقد رووا عن شيخهم الأكبر ابن عربي أنّه قال: «رأيت ربّي على صورة فرس»!!… وحكاه الشيخ علاء الدين السمناني في (أربعينه) والشيخ الكاشفي في (رشحاته)!!
(1) مجمع البيان في تفسير القرآن 1: 28.
(2) التحفة الاثنى عشريّة: 4 و228 .
(3) حياة الحيوان 1: 217 ـ 218.
(4) هداية السعداء ـ مخطوط.
(5) مصابيح السنّة 4: 196/4836.
(6) الدر المنثور 5: 492.