كلام وليّ الله الدهلوي في ذمّ القياس
وقال شاه ولي الله الدهلوي في (الإنصاف):
«ولا ينبغي أن يردّ حديثاً أو أثراً تطابق عليه كلام القوم، لقاعدة استخرجها هو أو أصحابه، كردّ حديث المصراة وكإسقاط سهم ذوي القربى، فإن رعاية الحديث أوجب من رعاية تلك القاعدة المخرجة، وإلى هذا المعنى أشار الشافعي حيث قال:
مهما قلت من قول أو أصّلت من أصل فبلغكم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خلاف ما قلت، فالقول ما قاله صلّى الله عليه وسلّم.
ومن شواهد ما نحن فيه ما صدّر به الإمام أبو سليمان الخطابي كتابه معالم السنن»، حيث قال: رأيت أهل العلم في زماننا قد حصلوا حزبين وانقسموا إلى فرقتين: أصحاب حديث وأثر، وأهل فقه ونظر، وكلّ واحدة منهما لا تتميّز عن اُختها في الحاجة ولا تستغني عنها في درك ما تنحوه من البغية والإرادة; لأنّ الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع، وكلّ بناء لم يوضع على قاعدة وأساس فهو منهار، وكلّ أساس خلا عن بناء وعمارة فهو قفر وخراب.
ووجدت هذين الفريقين ـ على ما بينهم من التداني في المحلّين والتقارب في المنزلتين، وعموم الحاجة من بعضهم إلى بعض، وشمول الفاقة اللاّزمة لكلّ منهم إلى صاحبه ـ إخواناً متهاجرين، وعلى سبيل الحقّ بلزوم التناصر والتعاون غير متظاهرين.
فأمّا هذه الطبقة الذين هم أهل الحديث والأثر، فإنّ الأكثرين إنّما وكدهم الروايات وجمع الطرق وطلب الغريب والشاذّ من الحديث الذي أكثره موضوع أو مقلوب; لا يراعون المتون ولا يتفهّمون المعاني ولا يستنبطون سرّها ولا يستخرجون ركازها وفقهها، وربّما عابوا الفقهاء وتناولوهم بالطعن وادّعوا عليهم مخالفة السنن، ولا يعلمون أنّهم عن مبلغ ما اُوتوه من العلم قاصرون وبسوء القول فيهم آثمون.
وأمّا الطبقة الاُخرى وهم أهل الفقه والنظر، فإنّ أكثرهم لا يعرّجون من الحديث إلاّ على أقلّه، ولا يكادون يميّزون صحيحه من سقيمه، ولا يعرفون جيّده من رديّه، ولا يعبئون بما بلغهم منه أن يحتجّوا به على خصومهم، إذا وافق مذاهبهم التي ينتحلونها ووافق آرائهم التي يعتقدونها، وقد اصطلحوا على مواضعة بينهم في قبول الخبر الضعيف والحديث المنقطع إذا كان ذلك قد اشتهر عندهم وتعاورته الألسن فيما بينهم، من غير ثبت فيه أو يقين علم به، فكان ذلك ضلة من الرأي و غبنا فيه.
وهؤلاء ـ وفّقنا الله وإيّاهم ـ لو حكي لهم عن واحد من رؤساء مذاهبهم وزعماء نحلهم قول يقوله باجتهاده من قبل نفسه، طلبوا فيه الثقة واستبرؤا له العهدة.
فتجد أصحاب مالك لا يعتمدون من مذهبه إلاّ ما كان من رواية ابن القاسم وأشهب وضربائهما من تلاد أي قدماء أصحابه، فإذا جاءت رواية عبدالله بن عبدالحكم وأضرابه لم يكن عندهم طائلاً.
وترى أصحاب أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يقبلون من الرواية عنه إلاّ ما حكاه أبو يوسف ومحمّد بن الحسن والعليّة من أصحابه والأجلّة من تلامذته، فإن جاءهم عن الحسن بن زياد اللؤلؤي وذويه رواية قول بخلافه، لم يقبلوه ولم يعتمدوه.
وكذلك نجد أصحاب الشافعي، إنّما يعوّلون في مذهبه على رواية المزني والربيع بن سليمان المرادي، فإذا جاءت رواية حرملة والجيزي وأمثالهما، لم يلتفتوا إليها ولم يعتدوا بها في أقاويله.
وعلى هذا عادة كلّ فرقة من العلماء في أحكام مذاهب أئمّتهم واُستاذتهم.
فإذا كان هذا دأبهم وكانوا لا يقنعون في أمر هذه الفروع ورواياتها عن هؤلاء الشيوخ إلاّ بالوثيقة والتثبّت، فكيف يجوز لهم أن يتساهلوا في الأمر الأهم والخطب الأعظم، وأن يتواكلوا في الرواية والنقل عن إمام الأئمّة ورسول ربّ العزّة الواجب حكمه، اللاّزمة طاعته، الذي يجب علينا التسليم لحكمه والإنقياد لأمره، من حيث لا نجد في أنفسنا حرجاً ممّا قضاه ولا في صدورنا غلاًّ من شيء أبرمه وأمضاه؟!
أرأيتم إذا كان الرجل يتساهل في أمر نفسه ويسامح غرمائه في حقّه، فيأخذ منهم الزيف ويغضي لهم عن العيب، هل يجوز له أن يفعل ذلك في حقّ غيره إذا كان نائباً عنه، كوليّ الضعيف ووصيّ اليتيم ووكيل الغائب؟
وهل يكون ذلك منه إذا فعله إلاّ خيانة للعهد وإخفاراً للذمّة؟
فهذا هو ذاك إمّا عيان حس وإمّا عيان مثل.
ولكن أقواماً عساهم استوعروا طريق الحقّ واستطالوا المدّة في درك الخطّ وأحبّوا عجالة النيل، فاختصروا طريق العلم واقتصروا على نتف وحروف منتزعة من معاني اُصول الفقه سمّوها عللاً، وجعلوها شعاراً لأنفسهم في الترسّم برسم العلم، واتخذوها جنّة عند لقاء خصومهم، ونصبوها دريئة للخوض والجدال يتناظرون بها ويتلاطمون عليها وعند التصادر عنها قد حكم للغالب بالحذق والتبريز، فهو الفقيه المذكور في عصره والرئيس المعظّم في بلده ومصره.
هذا، وقد دسّ لهم الشيطان حيلة لطيفة وبلغ منهم مكيدة بليغة فقال لهم: هذا الذي في أيديكم علم قصير وبضاعة مزجاة لا تفي بمبلغ الحاجة والكفاية، فاستعينوا عليه بالكلام وصِلُوه بمقطّعات منه واستظهروا باُصول المتكلّمين، يتّسع لكم مذهب الخوض ومجال النظر، فصدّق عليهم إبليس ظنّه وأطاعه كثير منهم واتّبعوه إلاّ فريقاً من المؤمنين، فياللرجال والعقول، أين يُذهب وأنّى يخدعهم الشيطان عن حظّهم وموضع رشدهم، والله المستعان. إنتهى كلام الخطابي»(1).
وقال شاه ولي الله الدهلوي في رسالته (عقد الجيد في الاجتهاد والتقليد) أيضاً:
«فما ذهب إليه ابن حزم حيث قال: التقليد حرام ولا يحلّ لأحد أن يأخذ قول أحد غير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلا برهان ـ ونقل كلاماً طويلاً عنه ثمّ قال ـ : إنّما يتمّ فيمن له ضرب من الإجتهاد ولو في مسألة واحدة، وفيمن ظهر عليه ظهوراً بيّناً أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أمر بكذا ونهى عن هذا وأنّه ليس بمنسوخ، إمّا بأن يتتبّع الأحاديث وأقوال المخالف والموافق في المسألة فلا يجد لها نسخاً، أو بأن يرى جمّاً غفيراً من المتبحّرين في العلم يذهبون إليه، ويرى المخالف له لا يحتجّ إلاّ بقياس أو استنباط أو نحو ذلك، فحينئذ لا سبب لمخالفة حديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلاّ نفاق خفي أو حمق جلي.
وهذا هو الذي أشار إليه الشيخ عزّالدين بن عبدالسلام حيث قال: ومن عجب العجيب: أنّ الفقهاء المقلّدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعاً، وهو مع ذلك يقلّده فيه ويترك من شهد الكتاب والسنّة والأقيسة الصحيحة لمذهبهم، جموداً على تقليد إمامه، بل يتحيّل لدفع ظاهر الكتاب والسنّة ويتأوّلهما بالتأويلات البعيدة الباطلة».
وذكر شاه ولي الله في (الإنصاف) أيضاً ما نصّه:
«وممّن نظم البلقيني في سلك المجتهدين المطلقين المنتسبين، تلميذه الولي أبو زرعة، فقال: قلت مرّة لشيخنا الإمام البلقيني: ما تقصير بالشيخ تقي الدين السبكي عن الإجتهاد وقد استكمل إليه؟ وكيف يقلّد؟ قال: ولم أذكره هو ـ أي شيخه البلقيني ـ استحياء منه، لما أردت أن اُرتّب على ذلك. فسكت. فقلت: فما عندي أنّ الإمتناع من ذلك إلاّ للوظائف التي قدرت للفقهاء على المذاهب الأربعة، وإنّ من خرج عن ذلك واجتهد لم ينله شيء من ذلك، وحرم ولاية القضاء وامتنع الناس من استفتائه ونسب إليه البدعة.
فتبسّم ووافقني على ذلك، إنتهى.
قلت: أمّا أنا فلا أعتقد أنّ المانع لهم من الإجتهاد ما أشار إليه، حاشا منصبهم العليّ على ذلك، وأن يتركوا الإجتهاد مع قدرتهم عليه لغرض القضاء والأسباب، هذا ما لا يجوز لأحد أن يعتقده فيهم، وقد تقدّم أنّ الراجح عند الجمهور وجوب الإجتهاد في مثل ذلك.
كيف ساغ للولي نسبتهم إلى ذلك ونسبة البلقيني إلى موافقته على ذلك»(2).
(1) الانصاف في بيان أسباب الاختلاف: 63 ـ 67.
(2) الانصاف في بيان سبب الاختلاف: 73 ـ 74.