كلام الفخر الرازي في ذمّ القياس
ولقد أطال الفخر الرازي الكلام في ذمّ الرأي والقياس بنقل الروايات وحكم بكون الحنفية من الضالّين والمضلّين، فقال في (مناقب الشافعي):
«الفصل الرابع: في بيان أنّ تلقيب الإنسان بأنّه من أصحاب الرأي ليس من ألقاب الشرف والمدح، ويدلّ عليه القرآن والأخبار والآثار المقبولة:
أمّا القرآن فقوله تعالى: (إنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً). وقوله: (ولا تَقْفُ ما ليس لك به عِلْمٌ). وقوله: (لا تُقدّموا بين يدي الله ورسوله).
الثاني: قوله تعالى: (لو كنّا نسمع أو نعقل) قدّم السمع على الرأي في كونه سبباً للخلاص عن السعير.
فإن قالوا: هذا معارض بقوله: (إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع) فقدّم القلب الذي هو معدن الفهم والرأي على السمع.
قلنا: المراد هاهنا العقل الذي هو شرط التكليف.
الثالث: قوله تعالى: (يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واُولي الأمر منكم) أطيعوا الله إشارة للكتاب، والرسول إشارة للسنّة، واُولي الأمر إشارة للإجماع. ثمّ قال: (فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول)إشارة إلى القياس.
فالله تعالى أخبر عن جميع الدلائل، وجعل جواز التمسّك به مشروطاً بعدم وجدان سائر الدلائل على ما بيّنّا ذلك في كتاب التفسير الكبير، وهذا يدلّ على أنّ أصحاب الحديث أعلى شأناً من أصحاب الرأي.
ويقرب منه قوله صلّى الله عليه وسلّم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: بم تحكم؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنّة رسول الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد برأيي. فقال: الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله لما يرتضيه رسول الله.
والإستدلال به عين ما تقدّم.
وأمّا الأخبار والأحاديث الكثيرة فناطقة بذلك:
أحدها: ما روي عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من قال في ديننا برأيه فاقتلوه.
وثانيها: ما روي أنّ عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ الله لا ينزع العلم انتزاعاً من أهله ولكن ينزعه بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالم اتّخذ النّاس رؤساء جهّالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا.
وجه الإستدلال به أنّ الفتوى بغير علم هي الجواب بالرأي.
وثالثها: ما روى عوف بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: تفترق اُمّتي على بضع وسبعين فرقة، أعظمها فتنة على اُمّتي قوم يفتون النّاس برأيهم.
ورابعها: روى أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إنّه قال: يعمل هذه الاُمّة برهة بالرأي، فإذا فعلوا ذلك فقد ضلّوا.
وخامسها: روى جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنّه قال: من تكلّم في الدّين برأيه فقد اتّهمني.
وأمّا الآثار فكثير منها ناطق بذلك:
قال عمر بن الخطّاب: إتّهموا الرأي في الدين، فإنّ الرأي المأخوذ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنّما كان صواباً، لأنّ الله تعالى كان يريه إيّاه، ودعوا ما تكلّف وظنّ، فإنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً.
وعنه: إيّاكم ومجالسة أصحاب الرأي فإنّهم أعداء الدين، قالوا برأيهم فضلّوا وأضلّوا كثيراً.
وقال ابن عبّاس: إيّاكم والرأي، فإنّ الله تعالى ردّ الرأي على الملائكة إذ قالوا:(أتجعل فيها من يفسد فيها) قال تعالى: (إنّي أعلم ما لا تعلمون) يعني لا اطّلاع لكم على أسرار أفعالي وأحكامي، فاتركوا الأقيسة.
وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ) ولم يقل بما رأيت.
وسُئل عن نبيّ فقال: لا أدري، فقال الرجل: قل فيها برأيك. فقال: إنّي أخاف أن أقول برأيي فتزلّ قدم بعد ثبوتها.
وقال ابن مسعود: يذهب خياركم ولا تجدون منهم خلفاً، ثمّ يجيء قوم يفتشون الاُمور برأيهم فينهدم الإسلام.
وعن عمر بن عبدالعزيز، إنّه كتب إلى النّاس :لا رأي لأحد مع سنّة سنّها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وكان الشعبي يقول في أصحاب الرأي: ما قالوا برأيهم فبُل عليه، وما حدّثوك عمّن كان قبلهم من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخذ به.
وروي: أنّ أبا سلمة بن عبدالرحمن والحسين البصري التقيا، فقال أبوسلمة: يا حسين! قيل لي أنّك تحدّث النّاس برأيك، إتّق الله واتّق رأيك.
وعن جعفر الصادق ابن محمّد الباقر إنّه قال: من وكّل إلى نفسه أخذ برأيه.
وقد روي: من أخذ برأيه وكّل إلى نفسه.
وعن الحسن البصري: إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: إنّ المؤمن من أخذ دينه عن الله تعالى، وإنّ المنافق يصيب رأياً فيأخذ دينه عنه.
وقال ابن المبارك: أخبرنا هشام بن عروة عن أبيه قال: ما زال أمر بني إسرائيل مستقيماً حتّى كثرت فيهم أبناء السبايا، فوضعوا فيهم الرأي فأهلكوهم.
وقال اللّيث بن سعد: جئت ابن شهاب يوماً بشيء من الرأي، فقبض وجهه كالكاره، ثمّ جئته يوماً آخر بأحاديث من السنن فتهلّل وجهه وقال: إذا جئتني ائتني بهذا.
وقال الشعبي: إنّما هلكتم لأنّكم تركتم الآثار وأخذتم بالمقاييس.
وقال ابن سيرين: أوّل من قاس إبليس، وما عبدت الشمس والقمر إلاّ بالمقاييس.
وقال أيضاً: ما حدّثوك من أصحاب محمّد فاقبله، وما حدّثوك عن رأيهم فألقه في الحش.
وكان الثوري يقول: من قال برأيه فقل رأيي مثل رأيكم، إنّما العلم بالآثار.
وذكر عند عبدالرحمن بن مهدي قوم من أهل البدع، فقال: لا يقبل الله إلاّ ما كان مبنيّاً على الأثر والسنّة، ثمّ قرأ: (ورهبانيّة ابتدعوها ما كتبناها عليهم).
واعلم: إنّ أقوال الصحابة والتابعين في ذمّ الرأي كثيرة، ولنكتف بهذا القدر من الروايات، ونحن ننقلها من كتاب الإنتصار لأصحاب الحديث، من تصانيف الشيخ أبي المظفّر السمعاني.
فإن قيل: هذه الروايات معارضة بروايات اُخر عن الصحابة، تدلّ على أنّهم كانوا قائلين بالرأي:
قال أبوبكر الصدّيق: أقول في الكلالة برأيي.
وقال ابن مسعود في المفوّضة: أقول فيها برأيي.
والجواب: إنّ الصدّيق إنّما قال في الكلالة برأيه ثمّ قال بعده: فإن يك صواباً فمن الله، وإن يك خطأ فمنّي ومن الشيطان، وهذا يدلّ على أنّه كان كالخائف من الرأي.
ونحن نفرّق بين هذه الروايات فنقول: الروايات التي ذكرناها تدلّ على أنّه يجب الحذر عن الرأي، والتي ذكرتموها تدلّ على أنّه يجوز استعمال الرأي عند الضرورة الشديدة، بشرط الحذر والإحتراز عن مخالفة النصوص، وعلى جميع التقديرات، فإنّه يخرج منه أنّ كون الإنسان صاحباً للحديث خير من أن يكون صاحب الرأي.
وأمّا الوجوه العقليّة في بيان تقديم النصّ على القياس والرأي، فكثيرة:
أحدها: أنّ التمسّك بالنصّ محمود عند جميع الطوائف، وأمّا التمسّك بالقياس فمذموم عند البعض دون البعض، والشيء الذي يكون محموداً عند الكلّ خير من الذي أقصى درجاته أن لا يكون مذموماً.
وثانيها: أنّ الحديث أصل والرأي فرع، والأصل خير من الفرع. وأيضاً الحديث بمنزلة الماء في الطهارات والرأي بمنزلة التراب، فكما كان الماء مقدّماً على التراب في طهوريّة الظواهر، كان الحديث مقدّماً على الرأي في طهوريّة البواطن، ومثل من قدّم الرأي على الحديث كمثل من قدّم التراب على الماء.
وثالثها: قال بعض العلماء: الماء نوعان: ما نزل من السماء وما نبع من الأرض; فالماء النازل من السماء يكون في طعم واحد من اللذّة والطيب، وعلى لون واحد من الصفاء والنقاء، وجوهر واحد في الطهارة والنظافة، فكذا العلم النازل من السماء يكون طاهراً نقيّاً عن شوائب الشبهات وممازجة الكدورات والظلمات، وأمّا الذي نبع من الأرض فإنّه يختلف لونه وطعمه ورائحته وطبعه بحسب اختلاف المعادن، تارة يكون طيّباً وتارة يكون منتناً، وتارة يكون لطيفاً واُخرى يكون كثيفاً، وكذا العلم الذي يظهر من القياس والرأي، تارة يكون فاسداً باطلاً وتارة يكون نافعاً، لكن كيف كان، فإنّ النفع فيه قليل».
وكان غرض الرازي من كلّ ذلك ذم الحنفيّة وتقديم الشافعيّة، لأنّه قد قال من قبل:
«إعلم أنّ أتباع الشافعي ملقّبون عند جمهور الخلف بأنّهم أصحاب الحديث، وأتباع أبي حنيفة ملقّبون عند جمهور الخلف بأنّهم أصحاب الرأي، وذلك يوجب رجحان مذهب الشافعي.
بيان المقام الأوّل من وجوه، الأوّل: إنّ جميع الفرق لو حضروا في محفل واحد، ثمّ قام إنسان وذكر أصحاب الحديث بمدح أو بذمّ، فإنّه يتسارع إلى فهم كلّ أحد أنّ المراد بذلك الكلام أصحاب الشافعي، وذلك يدلّ على اتّفاق الكلّ على أنّهم هم المختصّون بهذا اللقب، وأمّا أصحاب أبي حنيفة فإنّهم المختصّون بأنّهم أصحاب الرأي، والدليل عليه ما ذكرناه بعينه.
ثمّ نقول: إنّهم معترفون بأنّهم هم المخصوصون بهذا اللّقب بل يفتخرون به.
وبيان أنّ الأمر كذلك كالمعلوم بالضرورة فلا حاجة فيه إلى الإستدلال».
وذكر الرازي في بيان عدم صدق لقب أصحاب الحديث على الحنفيّة:
«أمّا أصحاب أبي حنيفة، فهم في غاية البعد عن هذا اللقب، لأنّهم لمّا كان مذهبهم أنّ القياس مقدّم على الخبر، فكيف يليق بهم هذا اللقب، لقولهم إنّا نقبل المراسيل والمجاهيل، بل نقول هذا الكلام بالعكس أولى، لأنّ صاحب الشيء هو الذي يكون مشفقاً عليه كثير الإجتهاد في صلاحه، والمشفق على الأخبار النبويّة هو الراغب في صونها عن الآفات والأخطار، فإنّ الشافعي إنّما لم يقبل المراسيل والمجاهيل لغاية حرصه على صون الأخبار عن الأكاذيب، وذلك من أدلّ الدلائل على أنّه بهذا اللقب الشريف أولى.
والعجب أنّ أباحنيفة قبل روايات المجاهيل وقبل المراسيل ثمّ قال: لا أقبل الحديث الصحيح إذا كان مخالفاً للقياس، ولا أقبل الحديث الصحيح في الواقعة التي يعمّ بها البلوى، ولا أقبل الحديث الصحيح الذي يكون راوي الفرع قاطعاً بصحّته وراوي الأصل غير حافظ للرواية عنه.
فليت شعري ـ إذن ـ أكان هذا الخبر أولى أم خبر مجهول لا يعرف حاله ولا صفته».
Menu