كلام الغزالي في ذمّ القياس
وللغزالي أيضاً كلمات في ذمّ علماء أهل السنّة العاملين بالآراء والتابعين للأهواء، ففي كتاب العلم من (إحياء العلوم):
«الباب الرّابع: في سبب إقبال الخلق على علم الخلاف، وتفصيل آفات المناظرة والجدل وشرّ إباحتها:
إعلم أنّ الخلافة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تولاّها الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم، وكانوا أئمة وعلماء بالله، فقهاء في أحكامه وكانوا مستقلّين بالفتاوى في الأقضية، وكانوا لا يستعينون بالفقهاء إلاّ نادراً في وقايع لا يستغنى فيها عن المشاورة، فتفرّع العلماء لعلم الآخرة وتجرّدوا لها، وكانوا يتدافعون الفتاوى وما يتعلّق بأحكام الخلق من الدنيا، وأقبلوا على الله تعالى بكنه اجتهادهم كما نقل من سيرهم.
فلمّا أفضت الخلافة بعدهم إلى أقوام تولّوها بغير استحقاق ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام، اضطرّوا إلى الاستعانة بالفقهاء وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم لاستفتائهم في مجاري أحكامهم، وكان قد بقي من علماء التابعين من هو مستمرّ على الطراز الأوّل وملازم صفوا الدين ومواظب على سمت علماء السلف، فكانوا إذا طلبوا هربوا وأعرضوا، واضطرّ الخلفاء إلى الإلحاح في طلبهم لتولية القضاء والحكومات، فرأى أهل تلك الأعصار عزّ عن العلماء وإقبال الأئمّة والولاة عليهم مع إعراضهم عنهم، فاشرأبوا لطلب العلم توصّلاً إلى نيل العزّ ودرك الجاه من قبل الولاة، فأكبّوا على علم الفتاوى وعرضوا أنفسهم على الولاة وتعرّفوا إليهم، وطلبوا الولايات والصّلات منهم، فمنهم من حُرِم ومنهم من اُنجح، والمنجح لم يخل عن ذُلّ الطلب ومهانة الابتذال.فأصبح الفقهاء ـ بعد أن كانوا مطلوبين ـ طالبين، وبعد أن كانوا أعزّة بالإعراض عن السلاطين، أذلّة بالإقبال عليهم، إلاّ من وفّقه الله تعالى في كلّ عصر من علماء دينه، وقد كان أكثر الإقبال في تلك الأعصار على علم الفتاوى والأقضية، لشدّة الحاجة إليها في الولايات والحكومات.
ثمّ ظهر بعدهم من الصدور والاُمراء من يسمع مقالات النّاس في قواعد العقائد، ومالت نفسه إلى سماع الحجج فيها، فعلم رغبته إلى المناظرة والمجادلة في الكلام، فأكبّ النّاس على علم الكلام وأكثروا فيه التصانيف، ورتّبوا فيه طرق المجادلات واستخرجوا فنون المناقضات في المقالات، وزعموا أنّ غرضهم الذبّ عن دين الله تعالى والنضال عن السنّة وقمع المبتدعة، كما زعم من قبلهم أنّ غرضهم الاستقلال بفتاوى الدين وتقلّد أحكام المسلمين، إشفاقاً على خلق الله ونصيحة لهم.
ثمّ ظهر بعد ذلك من الصدور من لم يستصوب الخوض في الكلام ولا فتح باب المناظرة فيه، لما كان قد تولّد من فتح بابه من التعصّبات الفاحشة والخصومات الفاشية المفضية إلى إهراق الدماء وتخرّب البلاد، ومالت نفسه إلى المناظرة في الفقه وبيان الأولى من مذاهب الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما على الخصوص، فترك الناس الكلام وفنون العلم وأقبلوا على المسائل الخلافيّة بين الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما على الخصوص، وتساهلوا في الخلاف مع مالك وسفيان وأحمد بن حنبل وغيرهم، وزعموا أنّ غرضهم استنباط دقائق الشرع وتقرير علل المذهب وتمهيد اُصول الفتاوي، وأكثروا فيها التصنيفات والإستنباطات، ورتّبوا فيها أنواع المجادلات والتصنيفات، وهم مستمرّون عليه إلى الآن، ولسنا ندري ما الذي يحدث الله تعالى فيما بعدنا من الأعصار، فهذا هو الباعث على الإكباب على الخلافيّات والمناظرات لا غير، ولو مالت نفوس أرباب الدنيا إلى الخلاف مع إمام آخر من الأئمّة، أو إلى علم آخر من العلوم، لمالوا أيضاً معهم، ولم يسكتوا عن التعلّل بأنّ ما اشتغلوا به علم الدين، وزعموا أن لا مطلب لهم سوى التقرّب إلى ربّ العالمين، والله أعلم»(1).
(1) إحياء علوم الدين 1: 41 ـ 42/ كتاب العلم، الباب الرابع.