كلام ابن عربي في ذمّ القياس
وتكلّم غوثهم الأعظم ابن عربي في الأخذ بالرأي والعمل بالقياس، حيث قال في (الفتوحات):
«قال الله تعالى لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم: (لتحكم بين النّاس بما أراك الله)ولم يقل: بما رأيت، بل عتبه سبحانه وتعالى لما حرّم على نفسه باليمين في قضيّة عائشة وحفصة، فقال تعالى: (يا أيّها النبيّ لم تحرّم ما أحلّ الله لك تبتغي مرضات أزواجك) فكان هذا ممّا أرته نفسه، فهذا يدلّك أنّ قوله تعالى: (بما أراك الله) إنّه ما يوحي به إليه لا ما يراه في رأيه، فلو كان الدين بالرأي لكان رأي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أولى من رأي كلّ ذي رأي، فإذا كان هذا حال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيما أرته نفسه، فكيف رأي من ليس بمعصوم ومن الخطأ أقرب إليه من الإصابة؟ فدل أن الاجتهاد الذي ذكره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنّما هو في طلب الدليل على تعيين الحكم في المسألة الواقعة لا في تشريع حكم في النازلة، فإنّ ذلك شرع لم يأذن به الله.
ولقد أخبرني القاضي عبدالوهّاب الأزدي الإسكندري بمكّة سنة تسع وتسعين وخمسمائة قال: رأيت رجلاً من الصالحين بعد موته في المنام فسألته: ما رأيت؟ فذكر أشياء منها قال: ولقد أريت كتباً موضوعة وكتباً مرفوعة، فسألت: ما هذه الكتب المرفوعة؟ فقيل لي: هذه كتب الحديث. فقلت: وما هذه الكتب الموضوعة؟ فقيل لي: هذه كتب الرأي، حتّى يُسئَل عنها أصحابها، فرأيت الأمر فيه شدّة.
إعلم ـ وفّقك الله ـ إنّ الشريعة هي المحجّة البيضاء، محجّة السعداء، وطريق السعادة، من مشى عليها نجا ومن تركها هلك، فإنّ رسول الله صلوات الله عليه وسلّم لمّا نزل عليه قوله تعالى: (وأنّ هذا صراطي مستقيماً) خطّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الأرض خطّاً وخطّ خطوطاً عن جانبي الخطّ يميناً وشمالاً ثم وضع اصبعه على الخط وقال تالياً: (وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه ولا تتّبعوا السُّبُل) وأشار إلى تلك الخطوط التي خطّها عن يمين الخط ويساره (فتفرّق بكم عن سبيله) وأشار إلى الخط المستقيم.
ولقد أخبرني بمدينة سلا ـ مدينة بالمغرب على شاطئ البحر المحيط يقال لها منقطع التراب وليس وراءها أرض ـ رجل من الصالحين الأكابر من عامّة النّاس قال: رأيت في النوم محجّة بيضاء مستوية عليها نور سهلة، ورأيت عن يمين تلك المحجّة وشمالها خنادق وشعاباً وأودية كلّها شوك، لا تنسلك لضيقها وتوعّر مسالكها وكثرة شوكها والظلمة التي فيها، ورأيت جميع الناس يخبطون فيها عشوا ويتركون المحجّة البيضاء السهلة، وعلى المحجّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونفر قليل معه يسير وهو ينظر إلى من خلفه، وإذا في الجماعة ـ متأخّر عنها لكنّه عليها ـ الشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن قرقور المحدّث ـ كان سيّداً فاضلاً في الحديث، اجتمعت بابنه ـ فكان يفهم عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إنّه يقول له: ناد في النّاس بالرجوع الى الطريق، فكان ابن قرقور يرفع صوته ويقول في ندائه ولا من داع ولا من مستدع: هلمّوا إلى الطريق هلمّوا. قال: فلا يجيبه أحد ولا يرجع إلى الطريق أحد.
واعلم: إنّه لمّا غلبت الأهواء على النفوس وطلبت العلماء المراتب عند الملوك، تركوا المحجّة البيضاء، وجنحوا إلى التأويلات البعيدة ليمشّوا أغراض الملوك فيما لهم فيه هوى نفس، ليستندوا في ذلك إلى أمر شرعي، مع كون الفقيه ربّما لا يعتقد ذلك ويفتي به، وقد رأينا منهم جماعة على هذا من قضاتهم وفقهائهم.
ولقد أخبرنى الملك الظاهر غازي ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، وقد وقع بيني وبينه في مثل هذا كلام، فنادى بمملوك وقال: جئني بالحرمدان. فقلت له: ما شأن الحرمدان؟ قال: أنت تنكر على ما يجري في بلدي ومملكتي من المنكرات والظلم، وأنا ـ والله ـ أعتقد مثل ما تعتقد أنت فيه من أنّ ذلك كلّه منكر، ولكن والله ـ يا سيّدي ـ ما منه منكر إلاّ بفتوى فقيه، وخطّ يده عندي بجواز ذلك، فعليهم لعنة الله، ولقد أفتاني فقيه هو فلان ـ وعَيَّن لي أفضل فقيه عنده في بلده في الدين والتقشّف ـ بأنّه لا يجب علَيّ صوم شهر رمضان هذا بعينه، بل الواجب علَيّ شهر في السنة، والإختيار لي فيه أيّ شهر شئت من شهور السنة. قال السلطان: فلعنته في باطني ولم أظهر له ذلك وهو فلان، وسمّاه لي، رحم الله جميعهم.
فلتعلم: أنّ الشيطان قد مكّنه الله من حضرة الخيال وجعل له سلطاناً فيها، فإذا رأى الفقيه يميل إلى هوى يعرف أنّه يردي عند الله زيّن له سوء عمله بتأويل غريب يمهّد له فيه وجهاً يحسّنه في نظره ويقول له: إنّ الصدر الأوّل قد دانوا الله بالرأي، وقاس العلماء في الأحكام واستنبطوا العلل للأشياء وطردوها، وحكموا في المسكوت عنه بما حكموها به في المنصوص عليه للعلّة الجامعة بينهما، والعلّة من استنباطه، فإذا مهّد له هذا السبيل جنح إلى نيل هواه وشهوته بوجه شرعيّ في زعمه، فلا يزال هكذا فعله في كلّ ما له أو لسلطانه فيه هوى نفس، ويردّ الأحاديث النبويّة ويقول: لو أنّ هذا الحديث يكون صحيحاً وإن كان صحيحاً يقول: لو لم يكن له خبر آخر يعارضه وهو ناسخ له لقال به الشافعي، إن كان هذا الفقيه شافعياً، أو لقال به أبو حنيفة إن كان هذا الرجل حنفيّاً، وهكذا قول أتباع هؤلاء الأئمة كلّهم، ويرون أنّ الحديث والأخذ به مضلّة، وأنّ الواجب تقليد هؤلاء الأئمة وأمثالهم فيما حكموا وإن عارضت أقوالهم الأخبار النبويّة، فالأولى الرجوع إلى أقاويلهم وترك الأخذ بالأخبار والكتاب والسنة.
فإذا قلت لهم: قد روينا عن الشافعي ـ رضي الله عنه ـ أنّه قال: إذا أتاكم الحديث يعارض قولي فاضربوا بقولي الحائط وخذوا بالحديث فإنّ مذهبي الحديث، وقد روينا عن أبي حنيفة إنّه قال لأصحابه: حرام على كلّ من أفتى بكلامي ما لم يعرف دليلي، وما روينا شيئاً من هذا عن أبي حنيفة إلاّ من طريق الحنفيّين، ولا عن الشافعي إلاّ من طريق الشافعيّة، وكذلك المالكيّة والحنابلة، فإذا جادلتهم في مجال الكلام هربوا وسكتوا.
وقد جرى لنا هذا معهم هذا مراراً بالمغرب وبالمشرق، فما منهم أحد على مذهب من يزعم أنّه على مذهبه.
فقد انتسخت الشريعة بالأهواء وإن كانت الأخبار موجودة مسطرة في الكتب الصحاح، وكتب التواريخ بالتجريح والتعديل موجودة، والأسانيد محفوظة مصونة من التغيير والتبديل، ولكن إذا ترك العمل بها واشتغل الناس بالرأي ودانوا أنفسهم بفتاوى المتقدمين مع معارضة الأخبار الصحاح لها، فلا فرق بين عدمها ووجودها إذا لم يبق لها حكم عندهم، وأيّ نسخ أعظم من هذا. وإذا قلت لأحدهم في ذلك شيئاً يقول لك: هذا هو المذهب، وهو ـ والله ـ كاذب، فإنّ صاحب المذهب قال له إذا عارض الخبر كلامي فخذ بالحديث واترك كلامي في الحش، فإنّ مذهبي الحديث، فلو أنصف لكان على مذهب الشافعي من ترك كلام الشافعي للحديث المعارض، فالله يأخذ بيد الجميع»(1).
(1) الفتوحات المكية: 5: 100 ـ 102.