كلام ابن دحية في ذمّ القياس
وقال ذوالنسبين ابن دحية في كتاب (شرح أسماء النبي):
«وقد كره الآن جماعة من أهل الرأي والمتصرّفة حبس الشعر وقالوا: لأنّه علامة للجند، وكذلك كره جماعة منهم التختّم في اليمين لمّا تختّمت الروافض في اليمين.
وهذا ليس بشيء، لأنّه ردّ للسنّة الثابتة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقد جاء الوجهان عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهما تختّم في اليمين وفي الشمال، فقولهم فيه أنّهم تنزّهوا عنه بسبب الروافض، وفي الشعر لئلاّ يتشبّه بالجند، فهذا تغيير للسنّة الثابتة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بدون دليل يرجع إليه، وهو باطل بالإجماع، ولا يدّعون قياساً، إذ لا أصل لهم في ذلك يختصّ بما نحن فيه، ولو كان لبطل أيضاً، فإنّ القياس في مقابل السنّة الثابتة باطل، وإنّما يرجع إليه عند عدمها، هل هذا إلاّ محض العناد والتقليد المخالف للسنّة الثابتة والقرآن المجيد؟!
قال مالك: لا يحلّف القاضي المدّعى عليه إلاّ أن يثبت المدّعي مخالطة بينه وبين المدّعى عليه.
وقال ابن أبي رقد: ولا يمين حتّى تثبت الخلطة وبذلك قضى حكّام المدينة.
فاعجبوا ـ رحمكم الله ـ لهذا الكلام المخالف لسيّد الأنام، ثبت باتفاق في الصحيحين من حديث علقمة بن وائل عن أبيه قال: جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال الحضرمي: يا رسول الله! إنّ هذا قد غلبني على أرض لي كانت لأبي، فقال الكندي: هي أرضي في يدي أزرعها ليس له فيها حقّ. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم للحضرمي: ألك بيّنة؟ قال: لا. قال: فلك يمينه. قال: يا رسول الله! إنّ الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه وليس يتورّع من شيء. فقال: ليس لك منه إلاّ ذلك، الحديث بطوله.
وفي حديث منصور عن أبي وائل، عن عبدالله بن مسعود، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنّه قال: شاهداك أو يمينه.
مقتضى هذا الحديث الصحيح يدلّ دلالة ظاهرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سمع هذه الدعوى ولم يشترط على المدّعي فيها شرطاً، ولو أنّ مدّعياً في هذا العصر حضر إلى قاض من مقلّدي المذاهب، وأمره على أن لا يدّعي إلاّ هكذا، لأخرج من بين يديه وقيل له حرّر دعواك: أين موضع هذه الأرض؟ وكم مساحتها طولاً وعرضاً؟ مع ما يشترطون من الشرائط، أترى الشارع صلّى الله عليه وسلّم تسامح في الأحكام أم وكّل الخلق بعده إلى من ينقّح شرعه من الأنام؟
وهذه واحدة ينبغي لذوي العقول أن يعلموا منها أنّ كلّ أحد يؤثر أن يسمع ما يقول ولا يردّ حوادث الفروع إلى الاُصول.
واُخرى: أنّه صلّى الله عليه وسلّم لم يقل: هل بينكما خلطة أو معاشرة، أم أنت من البادية وهو من الحاضرة.
ولو أنّ بعض المقلّدين حكم بمذهب من مذاهب الماضين لأخرج هذا المدّعي بغير حقّ، إلاّ أن يثبت الخلطة بين المتداعيين وقال: هذا خبرٌ واحدٌ خرج عن ظاهره لأجل الإستصلاح والإستحسان، وهما عند الصحابة والتابعين مهجوران، ولم يمت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى ترك الشريعة بيضاء نقيّة ولم يُبْقِ منها لخالف بعده بقيّة، وأكمل الله الدين ثمّ توفّى محمّداً سيّد المهتدين، ولكن طال الاُمّة فترك ما ينبغي أن يكون عليه المعتمد.
فالله تعالى يرشد سلاطين المسلمين أن يتمسّكوا بكتاب ربّ العالمين وبالسنّة الثابتة عن سيّد المرسلين ويعضّوا عليها بالنواجذ، ولا يمكّنوا أن يأخذ بخلافهما أحد، هذا ما وجب ذكره من النصيحة في الدين، والحمد لله ربّ العالمين.
فحكم أهل الرأي بخلاف ما حكم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد قال الله جلّ وعلا: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) وذكر البخاري في صحيحه في كتاب الحيل، باب إذا غصب جارية فزعم أنّها ماتت فقضى بقيمة الجارية الميتة ثمّ وجدها صاحبها فهي له ويرد القيمة ولا تكون القيمة ثمناً:
وقال بعض الناس ـ وهو أبو حنيفة ـ : الجارية للغاصب لأخذه القيمة.
وفي هذا احتيال لمن اشتهى جارية رجل لا يبيعها فغصبها واعتلّ بأنّها ماتت حتّى يأخذ ربّها قيمتها فيطيب للغاصب جارية غيره، وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أموالكم عليكم حرام، ولكلّ غادر لواءٌ يوم القيامة.
حدّثنا أبو نعيم قال: ثنا شيبان، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا تنكح الأيّم حتّى تُستأمر، ولا تنكح البكر حتّى تُستأذن. قالوا: كيف إذنها؟ قال: تسكت.
وقال بعض الناس ـ يعني أباحنيفة ـ إن احتال إنسان بشاهدي زور على تزويج امرأة ثيّب بأمرها فأثبت القاضي نكاحها إيّاه والزوج يعلم أنّه لم يتزوّجها قط، فإنّه يسعه هذا النكاح ولا بأس بالمقام له معها.
حدّثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ذكوان عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: البكر تستأذن. قلت: إنّ البكر تستحي. فقال: إذنها صماتها.
وقال بعض الناس: إن هوى إنسان جارية ثيّبة أو بكراً فاحتال فجاء بشاهدي زور على أنّه تزوّجها فرضيت الثيّبة فقبل القاضي شهادة الزور والزوج يعلم بطلان ذلك، حلّ له الوطء.
… ولو تتبّعنا أقوال أهل الرأي والفروع لخرجنا عن غرضنا في هذا المجموع.
فلنرجع إلى حديث من اُيِّد بالوحي والتنزيل وعصم من التغيير والتبديل، فليس لأحد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قول.
قال عبدالله بن عبّاس صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وابن عمّه: هي سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكتاب الله عزّ وجلّ، فمن قال بعد برأيه فلا أدري أمن حسناته أم سيّئاته.
وقال أبو عمرو الشعبي ـ وقد أدرك من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أكثر من خمس مائة، فيما ذكره أبوبكر ابن أبي خيثمة ـ : ما حدّثوك عن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخذ به، وما حدّثوك برأيهم فبل عليه»(1).
(1) المستكفى في شرح أسماء النبي المصطفى ـ مخطوط.