كلام أميرالمؤمنين في نفي أبي ذر
هذا، وقال أميرالمؤمنين عليه السلام في هذه القصّة كلاماً يعرف به حال عثمان وحزبه، فقد قال الحافظ سبط ابن الجوزي:
«روى الشّعبي عن أبي أراكة قال: لمّا نفي أبوذر إلى الربذة كتب إليه عليّ رضي الله عنه: أمّا بعد; يا أباذر، فإنّك غضبت لله تعالى فارج من غضبت له، إنّ القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك فاترك لهم ما خافوك عليه واهرب منهم لما خفتهم عليه ، فما أحوجهم إلى ما منعتهم وما أغناك عمّا منعوك، وستعلم من الرابح غداً، فلو أنّ السماوات والأرض كانتا رتقاً على عبد ثمّ اتّقى الله لجعل له منها مخرجاً.
لا يؤنسنّك إلاّ الحقّ ولايوحشنّك إلاّ الباطل.
ولو قبلت دنياهم لأحبّوك، ولو رضيت منها لأحقّوك، إنتهى»(1).
وما بعد ذلك الكلام الصّريح والحقّ الصّحيح المجاهر بأسرار الأشرار والهاتك لعوار أئمّة النار، الموسع عليهم خرقهم الموهي لهم رتقهم، المضيّق عليهم مجالهم القاطع لهم مقالهم، مطمع لطامع ولا تمويه لمموّه ولا حيلة لمحتال ولا مناص لهارب ولا ملجأ لملتج.
أوما تراه كيف يصرّح بالتشنيع الصريح والتعنيف العنيف والتغليظ العظيم والتنديد الشديد والطعن الكبير على عثمان؟ وكيف يظهر رداءة فعله وبلوغه كلّ مبلغ من الشناعة والفظاعة وعظم المحلّ عند أهل الدين ووقعه كلّ موقع من القبح في نفوس أهل اليقين؟ ويبدي إنّه لقد عزّ ذلك الفعل عليه سلام الله عليه وأنّ أباذر رضي الله عنه كان في ذلك مظلوماً ملهوفاً منجوداً مكروباً بلا استحقاق ولا علّة، بل كان الباعث على ذلك لهم هو غضبه لله تعالى، وكان الحامل لهم على نفيه وإخراجه وتهوينه وتوهينه هو الخوف على الدنيا.
وأيضاً: يظهر أنّ أباذر خاف من هؤلاء على دينه، وما بعد ذلك ستر ولا حجاب في كون عثمان من الخارجين عن دين الإسلام، وكونه وأتباعه ممّن يخافهم المؤمن على دينه، وهذا أشنع المعائب وأفظع المثالب.
وأيضاً: قوله عليه السلام «ستعلم من الرابح غداً» يصرّح جهاراً وينادي رافعاً عقيرته بأنّ عثمان وأتباعه ليسوا غداً برابحين، ولا هم في أعمالهم وأفعالهم من الصالحين، فيحشرون يوم القيامة كالحين ويساقون إلى جهنّم حايرين خاسرين كافرين طالحين.
وأيضاً: قوله عليه السلام «لا يوحشنّك إلاّ الباطل» يوضح إيضاحاً ويوحي إيحاء إلى أنّ عثمان ومن معه من الأعوان والخوّان هم أصحاب الباطل، ينبغي أن يستوحش منهم المؤمن الكامل وينفر منهم المسلم الفاضل.
وأيضاً: قوله عليه السلام «لو أنّ السماوات والأرض…» صريح وأيّ صريح في أنّ أباذر لم يعمل إلاّ بمقتضى التقوى وما سلك إلاّ سبيل الرّشد والهدى، وعثمان وأتباعه من أهل الضلال والهوى، وهم وإن ضيّقوا عليه الأمر حتّى كأنّهم بزعمهم رتقوا عليه السّماوات والأرض فلم يدعوا له من ملجأ ولا مناص ولم يبقوا له حيلة إلى خلاص، لكن الله يجعل لأبي ذر ـ لورعه وتقواه وانقطاعه إلى الله ومتاركته لما سواه ـ فرجاً وحيّاً ومخرجاً سريعاً، ويخلّصه من الضيق إلى السّعة وينقله من الضنك والقشف إلى الدعة.
وبالجملة: فقد وضح الصّبح لذي عينين وانشقّ دجى ضلال البهت والمين، وظهر ظلم عثمان وفسقه بل كفره ونفاقه وجوره وظلمه وتعسّفه وعناده ومخالفته لله ورسوله وتهتّكه حرمة المؤمنين والصحابة، وعدم مراعاته الإيمان والإسلام والفضل والمدح والثناء الذي يأثرونه من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على بصير وعامه ومهتد وتائه.
(1) تذكرة خواصّ الاُمّة: 143.