قول أحمد بأنّ قتال صفّين فتنة
وأحمد نفسه عندنا مطعون فيه، لأنّ القول بأنّ قتال أميرالمؤمنين عليه السلام الفئة الباغية قتال فتنة، تخطئة للإمام عليه السلام في جهاده وردّ عليه، وهذا نصب للعداء وعناد صريح له،… وقد حكى ذلك عنه ابن تيميّة حيث قال:
«ومذهب أكثر العلماء إنّ قتال البغاة لا يجوز، إلاّ أنْ يبتدؤا الإمام بالقتال، كما فعلت الخوارج مع علي، فإنّ قتاله الخوارج متفق عليه بين العلماء ثابت بالأحاديث الصحيحة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. بخلاف قتال صفين، فإنّ أولئك لم يبتدؤا بالقتال، بل امتنعوا عن مبايعته، ولهذا كان أئمّة السنّة كمالك وأحمد وغيرهما يقولون: إنّ قتاله للخوارج مأمور به، وأمّا قتال الجمل وصفّين فهو قتال فتنة، فلو قال قوم: نحن نقيم الصلاة ونؤتي الزكاة ولا ندفع زكاتنا إلى الإمام ونقوم بواجبات الإسلام، لم يجز للإمام قتالهم عند أكثر العلماء، كأبي حنيفة وأحمد. وأبوبكر الصدّيق إنّما قال مانعي الزكاة، لأنّهم امتنعوا من أدائها مطلقاً، وإلاّ فلو قال: نحن نؤدّيها بأيدينا ولا ندفعها إلى أبي بكر لم يجز قتالهم عند الأكثرين كأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهما، ولهذا كان علماء الأمصار على أنّ القتال كان قتال فتنة، وكان من قعد عنه أفضل ممّن قاتل فيه، وهذا مذهب مالك وأحمد بن حنبل والأوزاعي بل والثوري…»(1).
يقول هذا، والحال أنّ الشيخ عبدالعزيز الدهلوي صاحب كتاب (التحفة) ينصّ ـ وتبعاً لغيره من أكابر القوم ـ على أنّ مذهب أهل السنّة هو أنّ الإمام عليه السلام كان في حروبه على الحقّ وكان مصيباً فيها.
وأيضاً، فقد نصّ غير واحد منهم على وجوب متابعة أهل البيت عليهم السلام وإطاعتهم، وأنّ الفلاح والنجاح في الآخرة منوط بالإهتداء بهديهم والتمسّك بهم، وأنّ من تخلّف عنهم فهو هالك خاسر… وهذه الكلمات تقتضي الحكم على أحمد بن حنبل بالخروج عن أهل السنّة والوقوع في دركات الهلاك والضلال.
وأيضاً: فإنّ القول المذكور ردّ على الله والرسول، للأحاديث المستفيضة الدالّة على كون الإمام عليه السلام مأموراً بتلك الحروب…
وإنّ واحداً من هذه الوجوه ليكفي لسقوط آراء أحمد وفتاواه عن الإعتبار وبطلان القول بإمامته في الفقه والحديث… نعم، لقد نصّ أبو جعفر ابن جرير الطبري وصرّح بهذه الحقيقة، فيما نقل عنه ياقوت الحموي حيث قال:
«فلمّا قدم ـ يعني الطبري ـ إلى بغداد من طبرستان بعد رجوعه إليها، تعصّب عليه أبو عبدالله ابن الجصّاص وجعفر بن عرفة والبياضي، وقصده الحنابلة، فسألوه عن أحمد بن حنبل في الجامع يوم الجمعة، وعن حديث الجلوس على العرش، فقال أبو جعفر: أمّا أحمد بن حنبل فلا يُعدّ خلافه، فقالوا له: فقد ذكره العلماء في الإختلاف: فقال: ما رأيته روي عنه، ولا رأيت له أصحاباً يعوَّل عليهم. وأمّا حديث الجلوس على العرش فمحال.
سبحان من ليس له أنيس *** ولا له في عرشه جليس»(2)
وكذا الخطيب البغدادي، فيما نقل عنه أبوالمؤيّد الخوارزمي، فإنّه بعد أنْ حكى عن أحمد «إنّه سئل عن النظر في كتب أبي حنيفة أيجوز؟ فقال: لا» جعل يردّ عليه بوجوه، فقال:
«الثالث: إنّ الخطيب قد طعن في أحمد أكثر من هذا فقال: قدوثّق أحمد ابن حنبل حريز بن عثمان فقال: هو ثقة ثقة، وحريز كان يبغض أميرالمؤمنين عليّاً، ولا فرق بينه وبين من يبغض أبابكر وعمر. ثمّ قال الخطيب: وكان حريز كذّاباً فاسقاً، وروى عنه ابن عيّاش أنّه قال: هذا الذي يروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لعلي بن أبي طالب: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى خطأ. قال ابن عيّاش: قلت: فما هو؟ قال: سمعت الوليد بن عبدالملك يرويه على المنبر فيقول: علي منّي بمنزلة قارون بن موسى. ثمّ أكّد الخطيب هذه الشناعة على أحمد فقال: بلغني عن يزيد بن هارون أنّه قال: رأيت ربّ العزّة في النوم فقال: يا يزيد، تكتب عن حريز بن عثمان؟ فقلت: يا ربّ ما علمت عليه إلاّ خيراً، فقال: لاتكتب عنه فإنّه يسبّ عليّاً. وهذه حكايته عن أحمد أنّه طعن في أميرالمؤمنين، وقصد الخطيب به تنفير القلوب عنه، فلذلك جاز أن يكون مقصوده في حكايته الطعن عليه في أبي حنيفة تنفير قلوب أصحابه عنه»(3).
وكذا أبو علي الكرابيسي، فقد ذكر السبكي بترجمته: «الحسين بن علي ابن يزيد، أبو علي الكرابيسي، كان إماماً جليلاً جامعاً بين الفقه والحديث، تفقّه أوّلاً على مذهب أهل الرأي، ثمّ تفقّه للشافعي وسمع منه الحديث ومن يزيد بن هارون وإسحاق الأزرق ويعقوب بن إبراهيم وغيرهم…
قال الخطيب: حديث الكرابيسي يعزّ جدّاً، وذلك أنّ أحمد بن حنبل كان يتكلّم فيه بسبب مسألة اللفظ، وهو أيضاً يتكلّم في أحمد، فتجنّب الناس الأخذ عنه لهذا السبب.
قلت: كان أبو علي الكرابيسي من متكلّمي أهل السنّة، اُستاذاً في علم الكلام، كما هو اُستاذ في الحديث والفقه وله كتاب المقالات. قال ابن الخطيب الإمام فخرالدين في كتاب غاية المرام: على كتابه في المقالات معوّل المتكلّمين في معرفة الخوارج وسائر أهل الأهواء»(4).
(1) منهاج السنّة 4: 436ـ 437.
(2) معجم الاُدباء 5: 253.
(3) جامع مسانيد أبي حنيفة 1: 67 ـ 68.
(4) طبقات الشافعية 2: 117 ـ 118.