قضيّة صلاة القفّال
هذا، وقد جاء في الرسالة المذكورة بعد الكلام على فضائح أبي حنيفة في مسائل الطهارة:
«جئنا إلى الصّلاة، فوافق الشافعي الأصل الذي عليه بناء الصّلاة من الدعاء والخضوع والخشوع وقال: المعنى المطلوب من الصّلاة الخضوع والخشوع واستكانة النفس، ومحادثة القلب بالموعظة الحسنة والحكمة البالغة، والفكر في معاني القرآن والإبتهال إلى الله سبحانه، وأبو حنيفة لا يلزم الأصل ويخالفه حتّى طرح أركانها وشرائطها، حتّى رجع حاصل الصّلاة إلى نقرات كنقرات الديك، وإذا عرض ـ مثلاً ـ صلاته على كلّ عامي جلف امتنع عن اتّباعه، فإنّ من غمس في مستنقع نبيذ، ولبس جلد كلب مدبوغ، وأحرم بالصّلاة مبدّلاً بصيغة التكبير ترجمته تركياً كان أو هندياً، ويقتصر في قراءة القرآن على ترجمة قوله (مُدهامّتان) ثمّ يترك الركوع فينقر نقرتين، لا قعود بينهما ولا يقرأ التشهّد، ثمّ يحدث عمداً في آخر صلاته بدل التسليم، ولو اتفق منه أن سبقه الحدث يعيد الوضوء في أثناء الصلاة ويحدث، فإنّه إن لم يكن قاصداً لحدثه الأوّل لم يتحلّل عن صلاته على الصحّة.
والذي ينبغي أن يقطع به كلّ ذي دين: أنّ مثل هذه الصّلاة لم يبعث الله به نبيّاً، ولا بعث محمّد بن عبدالله المصطفى ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لدعاء الناس إليه، وهي قطب الإسلام وعماد الدين، وقد زعم أنّ هذا القدر أقلّ الواجب، وهي الصّلاة التي بعث بها النبيّ عليه الصّلاة والسلام، وما عداها آداب وسنن.
ويحكى أنّ السلطان يمين الدولة وأمين الملّة أباالقاسم محمود بن سبكتكين، كان على مذهب أبي حنيفة، وكان مولعاً بعلم الحديث، وكان ندماؤه وجلساؤه يسمعون الحديث من الشيوخ بين يديه وهو يسمع، وكان يستفسر الأحاديث، فوجد الأحاديث أكثرها موافقاً لمذهب الشافعي، فوقع في خلده حبّه، فجمع الفقهاء من الفريقين في المرو، والتمس منهم الكلام في ترجيح أحد المذهبين على الآخر، فوقع الإتفاق على أن يصلّوا بين يديه ركعتين على مذهب الشافعي وركعتين على مذهب أبي حنيفة، لينظر فيه السلطان ويتفكّر فيه ويختار ما هو أحسن.
فصلّى القفّال المروزي من أصحاب الشافعي بطهارة مسبغة وشرائط معتبرة من الطهارة والستر واستقبال القبلة، وأتى بالأركان والهيئات والسنن والآداب والفرائض على وجه الكمال والتمام، وكان صلاة لا يجوّز الشافعي دونها.
ثمّ صلّى ركعتين على ما يجوّز أبو حنيفة، فلبس جلد كلب مدبوغ ولطخ ربعه بالنجاسة، وتوضّأ بنبيذ التمر، وكان في صميم الصيف بالمفازة، فاجتمع عليه الذباب والبعوض، وكان وضوءه معكوساً منكوساً، ثمّ استقبل القبلة وأحرم بالصلاة من غير نيّة، وأتى بالتكبير بالفارسيّة، ثمّ قرأ آية بالفارسيّة «دو برك سبز» ثمّ نقر نقرتين كنقرات الديك، من غير فصل ومن غير ركوع، وتشهّد وضرط في آخره من غير سلام.
وقال: أيّها السلطان هذه صلاة أبي حنيفة.
فقال السلطان: إن لم تكن هذه صلاة أبي حنيفة لقتلتك; لأنّ مثل هذه الصلاة لا يجوّزها ذو دين.
وأنكرت الحنفيّة أن يكون هذه صلاة أبي حنيفة.
وأمر القفّال بإحضار كتب العراقيّين.
وأمر السلطان نصرانيّاً كاتباً يقرأ المذهبين جميعاً.
فوجدت الصّلاة على مذهب أبي حنيفة على ما حكاه القفال.
فأعرض السلطان عن مذهب أبي حنيفة وتمسّك بمذهب الشافعيّ.
ولو عرضت الصلاة التي جوّزها أبو حنيفة على العامّي لامتنع من قبولها».
وكذلك جاء في كتاب (السيف المسلول في ضرب القفال والمقفول)، فإنّه وإنْ حاول صاحبه في بدء الأمر تكذيب القصّة، لكنّه اضطرّ إلى الإقرار بثبوتها، وهذه عباراته:
«يقول أضعف عباد الله القوي علم الله بن عبدالرزاق الحنفي أصلح الله حاله وحقّق آماله: كنت أسمع من أفواه الرجال قصّة المروزي القفال مع السلطان محمود الغزنوي المغتال، في تحويله بالشعبذة والإحتيال وتنقيله عمّا كان عليه من سنيّ الأحوال، من مذهب الإمام أبي حنيفة الأعظم إلى مذهب الإمام محمّد بن إدريس المحترم، ولمّا كانت القصّة مشتملة على قبايح شنيعة وشنائع فظيعة لا تليق به، بل يستحيل أن تصدر عمّن له حظّ قليل من الأخلاق الرضيّة والآداب المرضيّة، بل من له أدنى رائحة من طيب الإسلام فضلاً عمّن يعدّه جمع من العلماء الأعلام، كنت كذّبتها وما صدّقتها وخطّأتها وما صوّبتها وقلت: حاشاه حاشاه! أين هذا وأين علمه وتقواه، مطهّر جنابه من هذه الأنجاس، منزّه لسانه عن لوث هذه الأدناس، شأنه أجلّ من أن يكون معروفاً بهذي الفضائح ومشهوراً بتلك القبائح، من البطالات المزخرفة والخرافات المستطرفة، واُضحوكات المضحكة ومهملات المتمسخرة، وتكلّمات المجانين وحكايات المغمورين، وخطابات المسحورين وهذيانات المحمومين، هزل لا فصل، جهل لا فضل، وكنت على ذلك برهة من الزمان ومدّة من الأكوان».
ثمّ قال بعد هذا كلّه:
«حتّى وقفت على تاريخ اليافعي من أعيان مقلّدي الشافعي، فرأيته قد ذكر القصّة على ما شاعت في الخافقين، نقلاً عن الكتاب المسمّى بمغيث الخلق لإمام الحرمين، فظهر أنّ القصة واقعة وأنّ الحكاية على ما هي شائعة، ليس في صدقها ريب ولا فيها من الافتراء شوب، فلمّا عرفت أنّ هذا اليقين لا يستراب زدتُ تحيّراً وقلت: إنّ هذا لشيءٌ عجابٌ، وأعجب من هذا، أنّ هؤلاء الذين عدّوّا أجلاّء الشافعيّة عظماء، ذكروا القصّة تبجّحاً وافتخاراً، وأوردوا الحكاية تبهّجاً وابتشاراً، كما يدلّ على ذلك عباراتهم ويجلو ما هنالك إشاراتهم».
Menu