رواية أبي الليث السمرقندي في فضل أبي ذر الغفاري
ومن التأييدات الإلهيّة والألطاف الربّانيّة: الرواية التالية التي يرويها الفقيه أبوالليث السمرقندي بأسانيده، وهذا نصّها:
«حدّثني عبدالوهّاب بن محمّد الفضلاني بسمرقند بإسناده عن محمّد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة، عن أبيه قال: قال عبدالله ابن مسعود رضي الله عنه:
لمّا خرج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى غزوة تبوك صحبه رجال من المنافقين، وكانوا يتخلّفون عنه الرجال والرجلان فيقولون: يا رسول الله، تخلّف فلان فيقول صلّى الله عليه وسلّم: دعوه; فمن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه.
فقالوا: يا رسول الله، تخلّف أبوذر.
فقال: فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم.
وكان أبوذر تخلّف، لأنّه أبطأ بعيره فتلوم بعيره فلمّا أبطأ عليه أخذ متاعه فحمله على ظهره، ثمّ رجع يتبع أثر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ماشياً حاملاً على ظهره في شدّة الحرّ وحده.
فقالوا: يا رسول الله، أقبل إلينا رجل يمشي وحده.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ليكن يا أباذر.
فلمّا تأمّله الناس قالوا: يا رسول الله، هذا والله أبوذر.
فدمعت عينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: رحم الله أباذر، يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده.
قال محمّد بن إسحاق: فحدّثني بريدة بن سفيان الأسلمي عن محمّد بن كعب رضي الله عنهم قال: لمّا سار أبوذر رضي الله عنه إلى الربذة في عهد عثمان رضي الله عنه وأصابه بها قدره، ولم يكن معه إلاّ امرأته وغلامه، فأوصى إليهما أن اغسلاني وكفّناني، ثمّ ضعاني على قارعة الطريق، فأوّل ركب يمرّ عليكم فقولوا: هذا أبوذر صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأعينونا على دفنه.
فلمّا مات فعلا به ذلك، ثمّ وضعاه على قارعة الطريق.
فأقبل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه في رهط من العراق، فلمّا رآهم الغلام قام إليهم فقال: هذا أبوذر صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأعينونا على دفنه.
فأقبل ابن مسعود رضي الله عنه وهو يبكي رافعاً صوته ثمّ قال: صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: تمشي وحدك وتموت وحدك وتبعث وحدك.
ثمّ واروه ومضوا وهو يحدّثهم بما قال رسول الله في مسيره إلى تبوك.
وعن أبان بن مسلم عن أبيه عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه: أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: سيصيبك بعدي بلاء.
قال: قلت: في الله؟
قال: في الله.
قلت: فمرحباً بأمر الله.
قال: يا أباذر، إسمع وأطع ولو صلّيت خلف أسود.
فلمّا توفّي رسول الله واستخلف أبوبكر رضي الله عنه، دعاه فحباه وبكى فقال: قد سمعت قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيك، فأعوذ بالله أن أكون صاحبك ـ يعني أعوذ بالله أن يصيبك البلاء بسببي أو في زماني ـ .
فلمّا توفّي أبوبكر رضي الله عنه وولّي عمر، دعاه وأثنى عليه وقال: قد سمعت قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيك، فأعوذ بالله أن يصيبك البلاء بسببي أو في زماني.
فلمّا توفّي عمر رضي الله عنه وولّي عثمان رضي الله عنه، قال عبدالله ابن عبّاس رضي الله عنه: كنت قاعداً عند عثمان رضي الله عنه فاستأذن أبوذر رضي الله عنه.
فقلت: يا أميرالمؤمنين، هذا أبوذر يستأذن.
قال: ائذن له إن شئت.
قال: فأذنت له.
فدخل حتّى جلس فقال له عثمان: أنت الذي تزعم أنّك خير من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؟
قال: ما قلت هذا.
قال: أنا أقيم عليك البيّنة.
قال أبوذر نضر الله وجهه: لا أدري ما بيّنتك، وقد علمت كيف قلت.
قال: كيف قلت؟
قال: قلت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ أحبّكم إليّ وأقربكم الذي يأخذ بالعهد الذي تركته عليه حتّى يلحقني، وكلّكم قد أصاب من الدنيا غيري.
قال عثمان رضي الله عنه: إلحق بمعاوية، فأخرجه إلى الشام.
فلمّا قدم إلى الشام، أخذ يعلّم النّاس، فأبكى عيونهم وأحزن صدورهم، وكان فيما يقول: لا يبيتنّ أحدكم وفي بيته دينار ولا درهم إلاّ شيء ينفقه في سبيل الله أو يعدّه لغريم. فأبكى معاوية والناس، فبعث إليه بألف دينار، فأراد أن يخالف قوله فعله وسريرته علانيته، فأخذ الألف وقسّمه كلّه فلم يبق عنده شيء.
فدعى معاوية الرسول في اليوم الثاني فقال له: إذهب إلى أبي ذر وقل له: إنّما أرسلني بالألف دينار إلى غيرك فأخطأت، فجاءه الرسول وقال له: أنقذني من عذاب معاوية، فإنّما أرسلني بالألف إلى غيرك فأخطأت به فدفعته إليك. فقال للرّسول: إقرأ معاوية منّي السلام وقل له: ما أصبح عندنا من دنانيرك شيء، فإن أردتها فأنظرنا ثلاثة أيّام نجمعها لك.
فلمّا رأى معاوية أنّ فعله يصدّق قوله كتب إلى عثمان رضي الله عنه: إن كان لك بالشام حاجة فأرسل إلى أبي ذر واستدعه.
قال: فكتب عثمان رضي الله عنه أن إلحق بي.
قال: فقدم أبوذر وعثمان في المسجد، فأقبل حتّى سلّم عليه، فردّ عليه السلام وقال له:
كيف أنت يا أباذر؟
قال: بخير.
ثمّ خرج عثمان رضي الله عنه فقال له: يا أباذر حدّثنا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
قال: نعم حدّثني حبيبي أنّ في الإبل صدقة، وفي الزرع صدقة، وفي الدرهم صدقة، وفي الشاة صدقة، ومن بات وفي بيته دينار أو درهم لا يعدّه لغريمه أو ينفقه في سبيل الله فهو كنز يكوى به يوم القيامة.
قالوا: يا أباذر، إتّق الله وانظر ما تحدّث، فإنّ هذه الأموال قد فشت في الناس.
فقال: أما تقرؤن القرآن (والذين يكنزون الذهب والفضّة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشّرهم بعذاب أليم) فمكث ليلتين أو ثلاثاً.
فأرسل إليه عثمان رضي الله عنه فقال: إلحق بالربذة. وهي قرية خربة.
فخرج إلى الربذة، فوجدهم يؤمّهم أسود، فقيل لأبي ذر: تقدّم، فأبى وصلّى خلف الأسود وقال: صدق الله ورسوله، قال لي: إسمع وأطع وإن صلّيت خلف الأسود.
ومكث هناك حتّى مات رحمه الله»(1).
وفي هذه الأخبار فوائد:
منها: قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «رحم الله أباذر…» فإنّه دليل على أنّ موت أبي ذر كذلك، الواقع بأمر عثمان، يعدّ من مناقبه ومآثره، فيكون إخراجه ظلماً له وجوراً عليه.
ومنها: قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم لأبي ذر: «سيصيبك بعدي…» وقوله في الجواب: «… فمرحباً بأمر الله…» فإنّه نصّ قاطع على مزيد جور عثمان وظلمه وعدوانه، وكون أبي ذر على الحق والصّواب.
ومنها: كلام الشيخين مع أبي ذر، واستعاذتهما بالله من أنْ يصيبه بلاءٌ بسببهما أو في زمانهما… مشيرين إلى كلام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإنّه دليلٌ آخر على ثبوت الكلام المذكور عن النبي، ومظلوميّة أبي ذر، وظلم عثمان.
لقد صدر من عثمان ما احترز من وقوعه الشيخان، فيالها من وقاحة شديدة، وقلّة حياء، وشدّة قسوة!!
ومنها: صدور أنواع من الفسق والفجور من معاوية بن أبي سفيان…
(1) تنبيه الغافلين لأبي الليث السمرقندي: 585 وما بعدها.