حديث: عليّ قسيم الجنّة والنار
ثمّ إنّ من المناقب الثابتة لأميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قسيم الجنّة والنار، لكنّ القوم ـ لشدّة عنادهم لأميرالمؤمنين ـ يحاولون ردّ هذه المنقبة التي تعدّ من خصائص الإمام.
فمنهم: من يكذّب بها، كالشيخ عبدالعزيز الدهلوي صاحب (التحفة الإثني عشرية).
ومنهم: من يناقش في صحّتها، بزعم المنافاة بينها وبين حديث «أنا أوّل من يجثو بين يدي الله للخصومة».
أو يبطلها بدعوى استلزامها لأفضليّة الإمام من النبي عليه وآله السلام.
لكنّ الحديث ثابت لا ريب فيه، والحديث المذكور لا ينافيه، وقد رواه ثقات القوم بأسانيدهم المتّصلة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام وغيرهم:
قال الحافظ السمهودي: «قال الجمال الزرندي: قال المأمون لعليّ الرضا: بأيّ وجه جدّك عليّ بن أبي طالب قسيم الجنّة والنار؟
فقال: يا أميرالمؤمنين، ألم ترو عن أبيك عن عبدالله بن عبّاس قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: حبّ عليّ إيمان وبغضه كفر؟ فقال: بلى. قال الرضا: فقسمة الجنّة والنّار على حبّه. فقال المأمون: لا أبقاني الله بعدك يا أباالحسن، أشهد أنّك وارث علم رسول الله.
قال أبوالصّلت عبدالسلام بن صالح الهروي: فلمّا رجع الرضا إلى بيته، قلت له: يا ابن رسول الله، ما أحسن ما أجبت به أميرالمؤمنين؟ فقال: يا أباالصلت، إنّما كلّمته من حيث هو، ولقد سمعت أبي يحدّث عن أبيه عن عليّ قال قال رسول الله: أنت قسيم الجنّة والنّار، فيوم القيامة تقول للنّار هذا لي وهذا لك»(1).
فهل رأى هذا الحديث عن هذا الإمام المعصوم من يكذّب به أو يناقش فيه؟
هذا، ومن رواته: أبو داود الطيالسي، والزمخشري، والدارقطني، والديلمي، وشاذان الفضلي، والسيوطي، وابن الأثير، والقاضي عياض، والمناوي، والمتقي…
قال ابن حجر المكي في (الصواعق):
«أخرج الدارقطني: إنّ عليّاً قال للستّة الذين جعل عمر الأمر شورى بينهم كلاماً طويلاً من جملته: اُنشدكم بالله، هل فيكم أحد قال له رسول الله: يا علي، أنت قسيم النّار والجنّة يوم القيامة، غيري؟ قالوا: اللّهمّ لا.
ومعناه ما رواه غيره عن عليّ الرضا أنّه قال له: أنت قسيم الجنّة والنّار، فيوم القيامة تقول للنار: هذا لي وهذا لك»(2).
وفي (كنز العمال) وهو ترتيب (جمع الجوامع):
«عن علي: أنا قسيم النار. شاذان الفضلي في ردّ الشمس»(3).
وفي (كنوز الحقائق):
«عليّ قسيم النّار. طيا»(4). أي: رواه أبو داود الطيالسي.
وفي (الشفاء) في فصل إخباره صلّى الله عليه وآله وسلّم عن المغيّبات:
«وأخبر بملك بني اُميّة، وولاية معاوية ووصّاه، واتّخاذ بني اُميّة مال الله دولاً، وخروج ولد العبّاس بالرايات السود، وملكهم أضعاف ما ملكوا، وخروج المهدي، وما ينال أهل بيته وتقتيلهم وتشريدهم، وقتل علي، وأنّ أشقاها الذي يخضب هذه من هذه، أي لحيته من رأسه، وأنّه قسيم النّار; يدخل أولياءه الجنّة وأعدائه النار»(5).
وفي (النهاية الأثيرية):
«وفي حديث علي رضي الله عنه: أنا قسيم النّار والجنّة. أراد: إنّ الناس فريقان، فريق معي، فهم على هدى، وفريق عليَّ، فهم على ضلال، فنصف معي في الجنّة، ونصف عليَّ في النار. وقسيم فعيل بمعنى فاعل، كالجليس والسمير. قيل: أراد بهم الخوارج، وقيل: كلّ من قاتله»(6).
وفي (الفائق):
«علي: أنا قسيم النّار. أي: مقاسمها ومساهمها، يعني: إنّ أصحابه على شطرين، مهتدون وضالّون، فكأنّه قاسم النّار إيّاهم، فشطر لها وشطر معه في الجنّة»(7).
وفي (المودّة في القربى):
«المودّة التاسعة: في أنّ مفاتيح الجنّة والنّار بيد عليّ رضي الله عنه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ الله تعالى أعطاني مفاتيح الجنّة والنّار فقال: قل إلى عليّ قولاً تخرج من تشاء وتدخل من تشاء.
وعن زيد بن أسلم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعليّ: يا علي، بخ بخ، من مثلك والملائكة تشتاق إليك والجنّة لك، إنّه إذا كان يوم القيامة ينصب لي منبر من نور، ولإبراهيم منبر من نور، ولك منبر من نور فتجلس عليه، وإذا مناد ينادي: بخ بخ من وصيّ بين حبيب وخليل، ثمّ اُوتى بمفاتيح الجنّة والنّار فأدفعها إليك.
وعن ابن عبّاس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا ابن عبّاس، عليك بعليّ، فإنّ الحقّ على لسانه، وإنّ النفاق يجانبه، وإنّ هذا قفل الجنّة ومفتاحها وقفل النّار ومفتاحها; به يدخلون الجنّة وبه يدخلون النّار.
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إذا كان يوم القيامة، يأتيني جبرئيل وميكائيل بخزنتين من المفاتيح، خزنة من مفاتيح الجنّة وخزنة من مفاتيح النار، على مفاتيح الجنّة أسماء المؤمنين من شيعة محمّد وعليّ، وعلى مفاتيح النّار أسماء المبغضين من أعدائه، فيقولان لي: يا أحمد، هذا مبغضك وهذا محبّك، فأودعها إلى عليّ بن أبي طالب فيحكم فيهم بما يريد، فوالذي قسّم الأرزاق لا يدخل مبغضه الجنّة، ولا محبّه النّار أبداً»(8).
هذا، ولا يخفى سقوط المعنى الذي ذكره ابن الأثير أمام كلام الإمام الرضا عليه السلام في المعنى الحقيقي للحديث… وكذلك في ألفاظ الحديث كما في رواية القاضي عياض وغيره.
ثمّ إنّ في بعض ألفاظ الحديث زيادةً جليلةً، رواها العاصمي بسنده في (زين الفتى) حيث قال:
«أخبرنا الحسين بن محمّد البستي قال: حدّثنا عبدالله بن أبي منصور بن عدي قال: حدّثنا محمّد قال: حدّثنا محمّد قال: حدّثنا محمّد قال: حدّثني حميد عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم:
ينادي يوم القيامة لعليّ بن أبي طالب أربعة مناد ويسمّونه بأربعة أسماء، يا عليّ بن أبي طالب ، جعلت الميزان بيدك فرجّح من شئت واخفض من شئت. ويا أسد الله، جعلت حوض محمّد بيدك فاسق من شئت واحبس من شئت. ويا سيف الله على أعدائه إذهب إلى الصراط فاحبس عليها من شئت وجوّز من شئت. ويا وليّ الله إذهب إلى باب الجنّة فأدخل من شئت واصرف عنها من شئت، فإنّه لايدخلها إلاّ من أحبّك بقلبه. قلت: ومن هذا أخذ الشاعر قوله:
قسيم النار والجنّة *** عليٌّ سيّد الاُمّة»(9)
ثمّ إنّه لا عجب من جهل الكابلي والدهلوي وأتباعهما بمناقب أهل البيت أو إنكارهم لها، إذ لا ارتباط بينهم وبين الأئمّة الطاهرين عليهم السلام، لكنّ العجب جهلهم بمناقب مشايخهم وعدم اطّلاعهم على موضوعات أسلافهم…
وإذا كان عنادهم لأهل البيت يحملهم على إنكار مناقبهم، أو المناقشة في مداليلها ومعانيها ـ كقول بعضهم بأنّ حديث قسيم الجنّة والنّار باطل لاستلزامه أفضليّة عليّ من النبيّ ـ فماذا يقولون في معنى الحديث الموضوع لمشايخهم في هذا الباب؟
فقد قال الحكيم الترمذي في (نوادر الاُصول):
«حدّثنا الفضل بن محمّد قال: حدّثنا الحسن بن أيّوب الدمشقي قال: قرأت على عبدالله بن صالح المصري قال: حدّثني سليم بن عبدالله الأيلي قال: حدّثني ابن جريج، عن عطاء عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
إذا كان يوم القيامة نادى مناد ليقم أهل الله، فيقوم أبوبكر الصدّيق وعمر الفاروق وعثمان ذوالنورين وعليّ بن أبي طالب.
فيقال لأبي بكر: قم على باب الجنّة فأدخل فيها من شئت برحمة الله وردّ منها من شئت بقدرة الله.
ويقال لعمر: قم عند الميزان فثقّل ميزان من شئت برحمة الله وأخفف ميزان من شئت بقدرة الله.
ويقال لعثمان: خذ هذه العصا فذد بها الناس عن الحوض.
ويقال لعلي: إلبس هذه الحلّة فإنّي خبّأتها لك منذ خلقت السماوات والأرض إلى اليوم.
ولذلك قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أرحم اُمّتي باُمّتي أبوبكر، وأقواهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان بن عفّان رضي الله عنهم.
فهذا الحديث الأوّل يبيّن منازل القوم أنّهم أهل الله وخاصّته وأنّه يكشف ذلك لأهل الموقف غداً يظهره عليهم عند خلقه، وأنّ الرحمة حظّها من الناس أبوبكر، وأنّ الحقّ حظّه من الناس عمر، فلذلك يقوم أبوبكر عند باب الجنّة، ويقوم عمر عند الميزان. بيّن هذا القول عن الرجلين أن كليهما كانا قد استويا لله وكانا في قبضته، فلا يرحمان إلاّ من يرحم ولا يخيّبان إلاّ من يخيب، وهذا من الأمانة، فإذا صار الأمين بحال يستكمل الأمانة فوّض إليه، فيكون مشيّته قد وافقت مشيّة الله التي ائتمنه.
فهؤلاء قوم قد صاروا اُمناء الله، ووقفت قلوبهم بين يديه رافضين لمشيّتهم، فلذلك قال أهل الله. والأهل والآل بمعنى واحد يؤولون إليه أي يرجعون إليه في كلّ شيء فيبرز لأهل الموقف، فينقادهم بقلوبهم وضمائرهم التي كانت فيما بينهم. وبيّن الله كرامة لهم وتنويهاً بأسمائهم في ذلك الجمع، فكان الغالب على أبي بكر الرحمة في أيّام الحياة، والغالب على عمر القيام بالحقّ وتعزيزه، فكأنّهما كانا ممّن هو في قبضته يستعمله، فاستعمل هذا بالرحمة وهذا بالحقّ، فإذا كان يوم القيامة وقف هذا عند باب الجنّة، وهذا عند الميزان»(10).
ولا يخفى أنّ واضعه إنّما ذكر إسم أميرالمؤمنين عليه السلام ليروّج باطله على عوام الناس، ويخدع به المستضعفين، إلاّ أنّه لم يذكر ما وضعه لأولئك، فأين لبس الحلّة من ذلك المقام الرّفيع الذي وضعه لهم؟ ومن هنا يظهر: أنّه كما غصب القوم الخلافة من الإمام عليه السلام فسمّوا بالخلفاء، كذلك سعى أولياؤهم لأنْ يغصبوا مناقب الإمام وألقابه ويجعلوها لهم!!
لكنّ المحبّ الطبري أورد هذا الحديث الموضوع في (الرياض النضرة) فجعل فضيلة الإمام عليه السلام لعثمان! وهذا نصّ روايته:
«ذكر اختصاص كلّ واحد منهم يوم القيامة بخصوصيّة شريفة:
عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ينادي مناد يوم القيامة من تحت العرش:
أين أصحاب محمّد؟
فيؤتى بأبي بكر وعمر وعثمان وعلي.
فيقال لأبي بكر: قف على باب الجنّة، فأدخل من شئت برحمة الله تعالى ودع من شئت بعلم الله تعالى.
ويقال لعمر بن الخطّاب: قف عند الميزان فثقّل من شئت برحمة الله تعالى وخفّف من شئت بعلم الله تعالى.
ويكسى عثمان حلّتين ويقال له: إلبسهما فإنّي خلقتهما وادّخرتهما حين أنشأت خلق السماوات والأرض.
ويعطى عليّ بن أبي طالب عصا من عوسج، من الشجرة التي غرسها الله تعالى بيده في الجنّة فيقال: ذد الناس عن الحوض.
فقال بعض أهل العلم: لقد واسا الله تعالى بينهم في الفضل والكرامة.
رواه ابن غيلان»(11).
وحاصل الكلام في هذا المقام:
إنّ حديث: أنا قسيم الجنّة والنّار، هو من الأحاديث الثابتة، ومن أنكره فهو جاهل أو متعصّب، ومن ناقش فيه من جهة استلزامه الأفضليّة من رسول الله بزعمه، فمناقشته مردودة عليه…
وأيضاً: فإنّ كلام الكابلي، الدهلوي وأتباعهما يدلّ على كذب واختلاق ما رواه الحكيم الترمذي والمحبّ الطبري… إذ لا مناص لهم من الإلتزام بلوازم كلامهم.
(1) جواهر العقدين 2 ق 2: 429.
(2) الصواعق المحرقة 2: 369.
(3) كنز العمال 13: 151/36475.
(4) كنوز الحقائق ـ حرف العين، ط هامش الجامع الصغير.
(5) الشفا بتعريف حقوق المصطفى 1: 338.
(6) النهاية في غريب الحديث والأثر 4: 54 «قسم».
(7) الفائق في غريب الحديث 3: 195 «قسم».
(8) انظر: كتاب ينابيع المودّة: المودّة في القربى ـ المودّة التاسعة 2: 311/888.
(9) زين الفتى بتفسير سورة هل أتى 2: 404/527.
(10) نوادر الاصول: 205.
(11) الرياض النضرة 1: 54.