تكلّم الشافعي فيه لروايته حديث خيار المجلس ومخالفته له
وأيضاً: فقد تكلّم الشافعي في مالك بسبب مخالفته لحديث خيار المجلس مع إيراده إيّاه في الموطّأ، فقال كلمةً موجزةً لكنّ معناها عظيم، قال: «ما أدري أتّهم مالكاً نفسه أو نافعاً»؟!
قال ولي الدين العراقي في (شرح الأحكام الصغرى):
«وذهب مالك وأبو حنيفة وأصحابهما إلى إنكار خيار المجلس وقالوا: إنّة يلزم البيع بنفس الإيجاب والقبول، وبه قال إبراهيم النخعي واختلف في ذلك عن ربيعة وسفيان الثوري. قال ابن حزم الظاهري: مانعلم لهم من التابعين سلفاً إلاّ إبراهيم وحده ورواية مكذوبة عن شريح، والصحيح عنه موافقة الحقّ، وكذا قال ابن عبدالبر: لا أعلم أحداً ردّه غير هذين الاثنين إلاّ ما روي عن إبراهيم النخعي، إنتهى.
وقال مالك في الموطّأ لمّا روى هذا الحديث: وليس هذا عندنا حدّ معروف ولا أمر معمول به.
قال ابن عبدالبرّ: واختلف المتأخّرون من المالكيّين في تخريج قول مالك هذا، فقال بعضهم: دفعه بإجماع أهل المدينة على ترك العمل به، وإجماعهم حجّة. وقال بعضهم: لا يصحّ دعوى إجماعهم في هذه المسألة، لأنّ سعيد بن المسيّب وابن شهاب ـ وهما أجلّ فقهاء أهل المدينة ـ روي عنهما منصوصاً العمل به، ولم يرو عن أحد من أهل المدينة ترك العمل به نصّاً إلاّ عن مالك وربيعة، وقد اختلف فيه على ربيعة. وكان ابن أبي ذئب ـ وهو من فقهاء أهل المدينة في عصر مالك ـ ينكر على مالك اختياره ترك العمل به، حتّى جرى منه لذلك في مالك قول خشن.
قال: وإنّما أراد مالك بهذا إنكار القول بأنّ خيار الشرط لا يكون إلاّ ثلاثة أيّام، فإنّه عند مالك وأهل المدينة يكون ثلاثاً وأكثر وأقل بحسب المبيع.
وقال: وأمّا خيار المجلس فإنّما ردّه اعتبار أو نظراً مال فيه إلى رأي بعض أهل بلده، إنتهى.
وحكى ابن العربي حمل كلام مالك هذا على دفع الحديث بعمل أهل المدينة عمّن لا تحصيل له من أصحابهم قال: وقد توهّم ذلك عليه ابن الجويني يعني إمام الحرمين، فقال: يروي الحديث عن نافع عن ابن عمر عن فَلْق في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمّ يتركه لعمل أهل المدينة قال: ولم يفهم ابن الجويني عنه.
ثمّ ذكر ابن العربي ما حاصله، أنّ مقصود مالك ردّ الحديث بأنّ وقت التفريق غير معلوم، فالتحق ببيوع الغرر، كالملامسة والمنابذة، وسنحكي عبارته في ذلك.
وسبق إمام الحرمين إلى إنكار ذلك على مالك الشافعي فقال: ما أدري أتّهم مالكاً نفسه أو نافعاً، واُعظِم عبدالله بن عمر أن أذكره إجلالاً له»(1).
ولا يخفى أنّ ما قاله الشافعي في مالك يتوجّه على أبي حنيفة أيضاً، فإنّه قدخالف كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كذلك، حتّى قال ابن المديني: «إنّ الله سائله عمّا قال» ذكر ذلك ولي الدين العراقي حيث قال:
«روى البيهقي في سننه عن علي بن المديني عن سفيان بن عيينة أنّه حدّث الكوفيّين بحديث ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في أنّ البيّعين بالخيار ما لم يتفرّقا، قال: فحدّثوا به أباحنيفة فقال: ليس هذا بشيء، أرأيت إن كانا في سفينة! قال علي: إنّ الله سائله عمّا قال»(2).
كما أنّ المالكيّة والحنفيّة قد خالفوا الحديث عن النبي تقليداً لإماميهما، وجعلوا يؤوّلونه بتأويلات سخيفة ردّ عليها ولي الدين أبو زرعة، وقد بلغت في الضعف والركّة حدّاً اضطرّ ابن عبدالبرّ ـ وهو من أئمّة المالكيّة ـ لأنْ يعترف بسقوطها، قال أبو زرعة بعد الردّ على التأويلات:
«وقد ظهر بما بسطناه أنّه ليس لهم متعلّق صحيح في ردّ هذا الحديث، فلذلك قال ابن عبدالبر: أكثر المتأخّرين من المالكيّين والحنفيّين من الإحتجاج لمذهبنا في ردّ هذا الحديث بما يطول ذكره، وأكثره تشغيب لا يحصل منه على شيء لازم لا مدفع له.
وقال النووي في شرح مسلم: الأحاديث الصحيحة تردّ عليهم، وليس لهم عنها جواب صحيح، فالصواب ثبوته كما قاله الجمهور».
هذا، وقد تعرّض أبو زرعة لكلام ابن العربي المالكي في الإنتصار والدفاع عن مذهب المالكيّة، وأجاب عنه بالتفصيل.
(1) شرح الأحكام الصغرى ـ مبحث خيار المجلس، بشرح الحديث: المتبايعان بالخيار ما لم يتفرّقا.
(2) شرح الأحكام الصغرى ـ مبحث خيار المجلس.