ترجمة القفّال المروزي
هذا، وإليك طرفاً من ترجمة أبي بكر القفال، المتوفى سنة 417، وفضائله ومحامده في كتب تراجم الرجال والتاريخ: فقد قال ابن خلّكان في (وفيات الأعيان):
«أبوبكر عبدالله بن أحمد بن عبدالله الفقيه الشافعي المعروف بالقفال المروزي، كان وحيد زمانه فقهاً وحفظاً، وورعاً وزهداً، له في مذهب الإمام الشافعي من الآثار ماليس لغيره من أبناء عصره، وتخاريجه كلّها جيّدة وإلزاماته لازمة، واشتغل عليه خلق كثير وانتفعوا به، منهم الشيخ أبو علي السبخي والقاضي حسين بن محمّد، وقد تقدّم ذكرهما، والشّيخ أبو محمّد الجويني والد إمام الحرمين، وسيأتي ذكرهما إن شاء الله تعالى وغيرهم، وكلّ واحد من هؤلاء صار إماماً يشار إليه، ولهم التصانيف النافعة ونشروا علمه في البلاد، وأخذ عنهم أئمّة كبار أيضاً»(1).
وقال ابن جماعة في (طبقات فقهاء الشافعية):
«عبدالله بن أحمد بن عبدالله المروزي، الإمام الجليل، أبوبكر القفال الصغير، شيخ طريقة خراسان، وإنّما قيل له القفال لأنّه كان يعمل الأقفال في ابتداء أمره، وبرع في صناعتها حتّى صنع قفلاً بالآلة ومفتاحه وزن أربع حبّات، فلمّا كان ابن ثلاثين سنة أحسّ من نفسه ذكاء فأقبل على الفقه، فاشتغل به على الشيخ أبي زيد وغيره، فصار إماما يقتدى به فيه، وتفقّه عليه خلق من أهل خراسان، وسمع الحديث، وحدّث وأملى.
قال الفقيه ناصر العمري: لم يكن في زمان أبي بكر القفال أفقه منه، ولا يكون بعده مثله، وكنّا نقول: إنّه ملك في صورة إنسان.
وقال الحافظ أبوبكر السمعاني في أماليه: أبوبكر القفال وحيد زمانه فقهاً وحفظاً وورعاً وزهداً، وله في المذاهب من الآثار ما ليس لغيره من أهل عصره، وطريقته المهذبة في مذهب الشافعي التي حملها عنه أصحابه أمتن طريقة وأكثرها تحقيقاً، رحل إليه الفقهاء من البلاد وتخرّج به أئمّة»(2).
وقال اليافعي في (مرآة الجنان):
«الإمام أبوبكر القفال المروزي، عبدالله بن أحمد شيخ الشافعية بخراسان، حذق في صنعته حتّى عمل قفلاً بمفتاحه وزن أربع حبّات، فلمّا صار ابن ثلاثين سنة، أحسّ بنفسه ذكاءً وحبّب الله إليه الفقه، فاشتغل به فشرع فيه، وهو صاحب طريقة الخراسانيّين في الفقه، عاش تسعين سنة.
قال ناصر العمري: لم يكن في زمانه أفقه منه ولا يكون بعده، كنّا نقول: إنّه ملك في صورة آدمي.
قلت: وهو القفال المتقدم ذكره مع السلطان محمود الملقّب بيمين الدولة وأمين الملّة ابن ناصر الدين سبكتكين، وله ذكر في صلاته على مذهب الشافعي فقهاً والمجزية على مذهب أبي حنيفة القصّة المتقدم ذكرها في سنة عشرة وأربعمائة.
قالوا: وكان وحيد زمانه فقهاً وحفظاً وورعاً وزهداً، واشتغل عليه خلق كثير منهم الأئمة الكبار: القاضي حسين والشيخ أبومحمّد الجويني وابنه إمام الحرمين والشيخ أبو علي السنجي وغيرهم، وكلّ واحد من هؤلاء صار إماماً يشار إليه، ولهم التصانيف النافعة، وأخذ عنهم الأئمة كبار أيضاً»(3).
وإليك كلمات الشيخ علي القاري في الطعن والذم لهذا الفقيه الكبير…
«ثمّ رأيت بعض أصحابنا إنّه أفاد في هذه الحكاية ما أجاد حيث قال: وما أقبح صلاة هذا المصلّي وأشنعها وما أسوء ضرطته وأفظعها، لقد لبس ثوب الخلاعة وارتدى برداء الشناعة، وأصمّ بضرطته الأسماع، وأتى بما تنفر عنه الطباع، وفعل فعل السفلة الخفاف، واستخفّ بالدين غاية الإستخفاف، فضلّ به عن سواء الصراط، والتحق بالأراذل والأسقاط بصلاته هذه وختمها بالضراط.
لقد ساعدته اُسته كلّ المساعدة، وباعدته عن الحياء والدين كلّ المباعدة; أمّا عن الدين فظاهر لأرباب اليقين، لأنّه تعمّد الحدث في حال مناجاته لربّ العالمين، وأمّا عن الحياء فذلك شيء لا ينكره أحد من العقلاء، فواعجباه! كيف أقدم هذا الذي ينسب إلى العلم على هذا الفعل القبيح، بحضرة جماعة منهم السلطان، فصيّر نفسه ضحكة لأهل الزمان بأمر الشيطان، ثمّ مع هذا ظنّ أنّ ضرطته هذه له نافعة وإنّما هي له عن رتبة العقلاء واضعة، إذ لو فعل مثل ذلك أحد من العوام لقيل إنّه ملحد مستخفّ بالإسلام، بل من ترك الصلاة رأساً أهون في مقام القبائح من هذه السيّئة المشتملة على الفضائح، إذ هي الشناعة العظمى والداهية الدَّهياء.
وإنّما حمله على ذلك اتّباع الهوى لأجل أغراض الدنيا، فليته حين مات مات فعله هذا معه ولم يذكر، ولم يكتب في الدفاتر ولم يُسطر، لكنّه اُثبت في التواريخ واشتهر، وتشدّق به من لا خلاق له وافتخر، فلو عرفوا ما فيه من أنّ الشناعة راجعة إليهم لما ذكروا مثل هذا فيما لديهم، ولكن كما قال سبحانه (أفمن زُيّن له سوء عمله فرآه حسناً فإنّ الله يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء)فنعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا، ونستغفره من زلل في أقلامنا وخطل في أقوالنا».
ثمّ إنّ فتاوى أبي حنيفة في أحكام الصّلاة هذه التي حكاها القفال، مذكورة في سائر الكتب أيضاً، فالسيوطي مثلاً يقول في رسالته (جزيل المواهب في اختلاف المذاهب) في بيان فضائل مذهب الشافعي:
«ومنها: كثرة الإحتياط في مذهبه وقلّته في مذهب غيره، فمن ذلك الإحتياط في العبادات وأعظمها شأناً الصلاة، ومن أدّى صلاته على مذهب الشافعي كان على يقين من صحّتها، ومن أدّاها على مذهب مخالفه وقع الخلاف في صحّة صلاته من وجوه: إجازتهم الوضوء بنبيذ التمر، وتطهير البدن والثوب عن النجاسات بالمايعات، وأجازوا الصلاة في جلد الكلب المذبوح من غير دباغ، و أجازوا الوضوء بغير نيّة ولا ترتيب وأسقطوه في مسّ الفرج والملامسة، وأجازوا الصّلاة على ذرق الحمام ومع قدر الدرهم من النجاسات الجامدة، وتلطّخ ربع الثوب من البول ومع كشف بعض العورة، وأبطلوا تعيين التكبير والقراءة، وأجازوا القرآن منكوساً، وبالفارسيّة، وأسقطوا وجوب الطّمأنينة في الركوع والسجود والإعتدال من الركوع والقعود بين السجدتين، والتشهّد والصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الصلاة، مع الخروج عنها بالحدث.
وأبطلنا نحن الصّلاة في هذه الوجوه، وأوجبنا الإعادة على من صلّى خلف واحد من هؤلاء».
وابن تيمية الذي له الباع الطويل في تكذيب الحقائق وإنكار الثوابت، قد نصَّ على صحّة ما نسب إلى أبي حنيفة، وأن هذه الصلاة ينكرها جمهور أهل السّنة، ففي (منهاج السنة):
«وأمّا ما ذكره من الصّلاة التي يجيزها أبوحنيفة وفعلها عند بعض الملوك حتّى رجع عن مذهبه، فليس بحجّة على فساد مذهب أهل السنّة، لأنّ أهل السنّة يقولون إنّ الحقّ لا يخرج عنهم، لا يقولون إنّه لا يخطي أحد منهم، وهذه الصّلاة ينكرها جمهور أهل السنّة، كمالك والشافعي وأحمد، والملك الذي ذكره هو محمود بن سبكتكين، وإنّما رجع إلى ما ظهر عنده أنّه من سنّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وكان من خيار الملوك وأعدلهم، وكان من أشدّ الناس قياماً على أهل البدع لاسيّما الرافضة»(4).
(1) وفيات الأعيان 3: 46/331.
(2) طبقات الشافعية لابن جماعة، وانظر: لابن قاضي شهبة 1: 186 برقم 144.
(3) مرآة الجنان وعبرة اليقظان 3: 24 حوادث السنة 417.
(4) منهاج السنة 3: 430.