تحريم أهل البيت العمل بالقياس
وكما علم من الكلمات السابقة إنكار الإمام الصادق عليه السلام وتحريمه القياس في الشريعة، فقد صرّح غير واحد منهم باشتهار هذا المعنى عن أهل البيت كلّهم عليهم السلام، وممّن نصّ على ذلك: العبري الفرغاني بشرح قول القاضي البيضاوي: «نقل الإماميّة إنكاره ـ أي القياس ـ عن العترة. قلنا: معارض بنقل الزيديّة» فإنّه قال:
«والحقّ أنّه قد اشتهر من أهل البيت كالباقر والصادق وغيرهما من الأئمّة ـ رضوان الله عليهم ـ إنكار القياس، كما اشتهر من أبي حنيفة والشافعي ومالك القول بوجوب العمل به»(1).
وأمّا عمل الحنفيّة بالقياس وبعدهم عن الحديث، فمشهور جدّاً ولا ينكره أحد أبداً:
قال الفخر الرازي في (رسالته) في ترجيح مذهب الشافعي: «وأمّا أصحاب الرأي، فإنّ أمرهم في باب الخبر والقياس عجيب، فتارة يرجّحون القياس على الخبر وتارة بالعكس; أمّا الأوّل، فهو أنّ مذهبنا أنّ التصرية سبب مثبت للرد وعندهم ليس كذلك، ودليلنا: ما اُخرج في الصحيحين عن أبي هريرة أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: لا تُصرّوا الإبل والغنم، فمن ابتاعها فهو يخير النظرين بعد أن يحلبها ثلاثاً، إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردّها، وردّ معها صاعاً من تمر.
واعلم: أنّ الخصوم لمّا لم يجدوا لهذا الخبر تأويلاً البتّة، بسبب أنّه مفسّر في محلّ الخلاف، اضطرّوا إلى أن يطعنوا في أبي هريرة وقالوا: إنّه كان متساهلاً في الرواية وما كان فقيهاً، والقياس على خلاف هذا الخبر، لأنّه يقتضي تقدير خيار العيب بالثلث، ويقتضي تقويم اللّبن بصاع من تمر من غير زيادة ولا نقصان، ويقتضي إثبات عوض في مقابلة لبن حادث بعد العقد، وهذه الأحكام مخالفة للأصول، فوجب ردّ ذلك الخبر لأجل القياس.
هذا كلامهم في ترجيح القياس على الخبر، أمّا كلامهم في ترجيح الخبر على القياس الجلي فهو من وجوه:
أحدها: إنّ انتقاض الطهارة بسبب القهقهة في الصلاة أمر يأباه القياس الظاهر، ثمّ إنّهم أثبتوا ذلك بسبب خبر ضعيف ما قبله أحد من علماء الحديث.
وثانيها: وهو أعجب من الأوّل، إنّهم يقدّمون عمل الصحابة على القياس الجلي، بل على الدليل المستفاد من نصّ القرآن.
أمّا الأوّل: فلأنّه إذا وقعت عصفورة في بئر وتفسّخت قالوا ينزح منها عشرة أدل ويصير الباقي طاهراً، وصريح العقل يشهد بدفع هذا الحكم، لأنّ ماء البئر شيء متشابه الأجزاء، فكيف يعقل أن يكون نزح بعض ذلك الماء سبباً لصيرورة الباقي طاهراً، فعند هذا قالوا إنّما حكمنا بذلك لأنّه نقل هذا المذهب عن بعض الصحابة.
وأمّا الثاني: فإنّ البائنة في مرض الموت، صريح كتاب الله يقتضي إنّها ليست زوجة له، لأنّها لو كانت زوجة لكان إذا ماتت يجب أن يرث عنها لقوله تعالى: (ولكم نصف ما ترك أزواجكم) الآية، وبالإجماع الزوج لا يرث منها، فثبت إنّها ليست زوجة له، وإذا ثبت هذا، وجب أن لا ترث هي منه، لأنّ الربع نصيب الزوجات، فمنع أن يكون شيء منه نصيباً لهذه البائنة، لدليل ظاهر من كتاب الله تعالى في هذه المسألة. ثمّ إنّهم قالوا إنّها ترث بدليل أنّ عثمان بن عفّان قضى بذلك في حقّ تماضر زوجة عبدالرحمن بن عوف، والعجب أنّ ابن عوف وابن الزبير كانا مخالفين لعثمان في هذه الفتوى ثمّ إنّهم قدّموا فتوى عثمان في هذه المسألة على ظاهر كتاب الله تعالى.
فثبت أنّهم تارة يقدّمون القياس على الخبر، وتارة يقدّمون عمل بعض الصحابة على الكتاب، وتارة يعكسون الأمر في هذه الأبواب، وذلك يدلّ على أنّ طريقتهم غير مبنيّة على قانون مستقيم، أنشد بعضهم:
دين النبيّ محمّد آثار *** نعم المطيّة للفتى الأخبار
ولربّما غلط الفتى سبل الهدى *** والشمس واضحة لها أنوار
لا تغفلنّ عن الحديث وأهله *** فالرأي ليل والحديث نهار»
(1) شرح المنهاج في الاصول للعبري الفرغاني ـ مخطوط، وانظر شرح شمس الدين الاصفهاني 2: 654 ـ 655 .