بين المثبتين والمنكرين من أهل السنّة
ثمّ إنّ المثبتين للقياس من أهل السنّة يشنّعون على المنكرين له ويذمّونهم الذمّ الشديد، حتّى جاء في (شرح البخاري) لابن الملقّن أنّه: «قال المزني: فوجدنا بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أئمّة الدين فهموا عن الله تعالى وما اُنزل إليهم وعن الرسول ما أوجب عليهم، ثمّ الفقهاء إلى اليوم هلمّ جرّاً استعملوا المقاييس والنظائر في أمر دينهم، فإذا ورد ما لم ينصّ عليه نظروا، فإنْ وجدوه مشبّهاً لما سبق الحكم فيه من الشارع أجروا حكمه عليه، وإنْ كان مخالفاً له فرّقوا بينه وبينه، فكيف يجوز لأحد إنكار القياس؟ ولا ينكر ذلك إلاّ من أعمى الله قلبه وحبّب إليه مخالفة الجماعة».
وإذا كان هذا حال المنكرين للقياس، فهلمّ معي لنرى من هم المنكرون له؟
قال الحافظ ابن حجر في (شرح البخاري) نقلاً عن ابن بطّال:
«أوّل من أنكر القياس إبراهيم النظّام وتبعه بعض المعتزلة، وممّن ينسب إلى الفقه داود بن علي، وما اتّفق عليه الجماعة هو الحجّة، فقد قاس الصحابة ومن بعدهم من التابعين وفقهاء الأمصار، وبالله التوفيق»(1).
ثمّ قال ابن حجر:
«وتعقّب بعضهم الأوليّة التي ادّعاها ابن بطّال: بأنّ إنكار القياس ثبت عن ابن مسعود من الصحابة، ومن التابعين عن عامر الشعبي من فقهاء الكوفة، وعن محمّد بن سيرين والحسن من فقهاء البصرة، وذلك مشهور عنهم، نقله ابن عبدالبر، ومن قبله الدارمي وغيره عنهم وعن غيرهم»(2).
ومن المنكرين للقياس: أبو بكر أحمد بن أبي عاصم النبيل، قال ابن حجر في (لسان الميزان):
«أبوبكر ابن أبي عاصم، عن عبدالجبّار بن العلاء العطّار، وعنه عبدالله ابن محمّد بن جعفر شيخ أبي نعيم. قال ابن القطّان: لا أعرفه، كذا قال، وهو إمام ثقة حافظ مصنّف لا يجهل مثله انتهى كلام شيخنا.
وهو: أحمد بن عمر وبن أبي عاصم النبيل، واسم أبي عاصم الضحاك ابن مخلد الشيباني…
وله الرحلة الواسعة والتصانيف الكثيرة في الأبواب.
روى عنه: محمّد بن حسان، وأبو أحمد الغسّاني وأحمد بن بندار الشعار وأحمد بن المفيد السمسار، وآخرون.
قال أبو سعد ابن الأعرابي في طبقات النسّاك: سمعت إنّه كان يذكر أنّه يحفظ لشقيق البلخي ألف مسألة، وكان من حفّاظ الحديث والفقه، وكان يذهب إلى القول للقول بترك القياس.
قال أبو نعيم الحافظ: كان ظاهري المذهب، ولي القضاء بعد صالح بن أحمد، وترجم له موسى، ومات في ربيع الآخر سنة 287»(3).
ومنهم: داود الظاهري كما عرفت، وهو من كبار الأئمة، فقد قال السبكي في (الطبقات) بترجمته:
«داود بن علي بن خلف بن سليمان البغدادي الإصبهاني، إمام أهل الظاهر، ولد سنة مائتين وقيل سنة اثنتين ومائتين، وكان أحد أئمة المسلمين وهداتهم، وله في فضل الشافعي رحمه الله مصنّفات، سمع سليمان بن حرب والقعنبي وعمرو ابن مرزوق ومحمّد بن كثير العبدي ومسدداً وأبا ثور وإسحاق ابن راهويه، رحل إليه إلى نيسابور، فسمع منه المسند والتفسير، وجالس الأئمة وصنّف الكتب.
قال أبوبكر الخطيب: كان إماماً ورعاً ناسكاً زاهداً…»(4).
وقال ابن خلّكان:
«أبو سليمان داود بن علي بن خلف الإصبهاني، الإمام المشهور المعروف بالظاهري، كان زاهداً متقلّلاً كثير الورع، أخذ العلم عن إسحاق بن راهويه وأبي ثور، كان من أكثر الناس تعصّباً للإمام الشافعي رضي الله عنه، وصنّف في فضائله والثناء عليه كتابين، وكان صاحب مذهب مستقلّ، وتبعه جمع كثير يعرفون بالظاهريّة، وكان ولده أبوبكر محمّد على مذهبه، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى، وانتهت إليه رياسة العلم ببغداد. وقيل: إنّه كان يحضر مجلسه أربعمائة صاحب طيلسان أخضر»(5).
ومنهم: ابن حزم الأندلسي، الذي قال ابن خلكان بترجمته:
«كان حافظاً عالماً بعلوم الحديث وفقهه، مستنبطاً للأحكام من الكتاب والسنّة، بعد أن كان شافعيّ المذهب، فانتقل إلى أهل الظاهر، وكان متقناً في علوم جمّة، عاملاً بعلمه زاهداً في الدنيا بعد الرياسة التي كانت له ولأبيه من قبله في الوزارة وتدبير الملك، متواضعاً ذا فضائل وتواليف كثيرة…
قال ابن بشكوال في حقّه: كان أبو محمّد أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم أهل الإسلام وأوسعهم معرفة، مع توسّعه في علم اللسان ووفور حظّه من البلاغة والشعر والمعرفة بالسير والأخبار، أخبر ولده أبو رافع الفضل إنّه اجتمع عنده بخطّ أبيه من تواليفه نحو أربعمائة مجلّد يشتمل على قريب من ثمانين ألف ورقة.
وقال الحافظ أبو عبدالله محمّد بن فتوح: ما رأيت مثله فيما اجتمع له من الذكاء وسرعة الحفظ وكرم النفس والتدّين»(6).
(1) فتح الباري في شرح البخاري 13: 253.
(2) المصدر نفسه 13: 253.
(3) لسان الميزان 7: 592 ـ 593 / 9669 وفي ط 7: 20.
(4) طبقات الشافعية الكبرى 2: 284/66.
(5) وفيات الأعيان 2: 255/223.
(6) وفيات الأعيان 3: 325/448.