الغزالي وأبو حنيفة
ومن الأعلام الذين ردّوا وشنّعوا على أبي حنيفة في فقهه وفتاواه هو: أبو حامد الغزالي، الذي يكفي في الوقوف على مقامه ومعرفة شأنه ومنزلته عند القوم: مباهاة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم به، فيما رواه الدميري في (حياة الحيوان) بالسند الصحيح عن الشيخ الإمام العارف بالله أبي الحسن الشاذلي إنّه قال: «رأيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في المنام وقد باهى موسى وعيسى: في اُمّتكما حبر هكذا ـ وأشار إلى الغزالي ـ .
وقال الشيخ الإمام العارف بالله الاُستاد ركن الشريعة والحقيقة أبوالعبّاس المرسي ـ وقد ذكر الغزالي فشهد له بالصدّيقيّة العظمى ـ: وحسبك من باهى النبي به موسى وعيسى، وشهد له الصدّيقون بالصدّيقيّة العظمى»(1).
فمن ذلك قوله في (المنخول) في كتاب الفتوى:
«الفصل الرابع: في التنصيص على مشاهير المجتهدين من الصحابة والتابعين وغيرهم، ولا خفاء بأمر الخلفاء الراشدين، إذ لا يصلح للإمامة إلاّ مفت، وكذا كلّ من أفتى في زمنهم، كالعبادلة وزيد بن ثابت، ومعاوية قلّده الشافعي في مسألة، وأصحاب الشورى قيل إنّهم كانوا مفتين; لأنّ عمر جعل الأمر فيما بينهم، فدلّ على صلاح كلّ واحد له.
قال القاضي: وهذا فيه نظر، إذ ما من واحد إلاّ وشبّب عمر فيه بشيء لمّا أن عرض عليه; فقال في طلحة: صاحب ختر واَنْه واستكبار، وفي الزبير: إنّه صاحب المدّ والصاع، وفي سعد: إنّه صاحب مقنب، وفي عليّ: إنّ فيه دعابة، وفي عثمان: إنّه كلف بأقاربه، فلا يتلقّى حكم اجتهادهم من هذا المأخذ.
وأبوهريرة لم يكن مفتياً فيما قاله القاضي، وكان من الرواة.
والضابط عندنا فيه أنّ كلّ من علمنا قطعاً أنّه يتصدّى للفتوى في أعصارهم ولم يمنع عنه، فهو من المجتهدين، ولمن لم يتصدّ له قطعاً فلا، ومن تردّدنا في ذلك في حقّه تردّدنا في صفته، وقد انقسمت الصحابة إلى متنسّكين لا يعتنون بالعلم وإلى معتنين به، وأصحاب العمل منهم لم يكن لهم مرتبة الفتوى، والذين يعلمون وأفتوا فهم المفتون، ولا مطمع في عدّ آحادهم بعد ذكر الضابط ، وهو الضابط أيضاً في التابعين، وللشافعي في الحسن البصري كلام.
وأمّا مالك، فكان من المجتهدين، نعم له زلل في الإسترسال على المصالح، وتقديم عمل علماء المدينة، وله وجه كما ذكرناه من قبل.
وأمّا أبو حنيفة، فلم يكن مجتهداً، لأنّه كان لا يعرف اللغة، وعليه يدلّ قوله: لو رماه بأبوقبيس، وكان لا يعرف الأحاديث; ولهذا عزي بقبول الأحاديث الضعيفة وردّ الصحيح منها، ولم يكن فقيه النفس بل كان يتكايس لا في محلّه على مناقضة مآخذ الاُصول»(2).
وذكر في (المنخول) في كتاب الترجيح:
«الباب الثاني: في ترجيح بعض الأقيسة المتعارضة على البعض، وممّا لابدّ من تقديمه على الخوض في ترجيح المقاييس، فصل ذكره القاضي في ترتيب النظر في قواعدالأقيسة، فقال: النظر فيها ينقسم إلى ما لا يتفاوت في نفسه وإلى المتفاوت في نفسه وإلى المتفاوت; وعنى بالمتفاوت ما يتفاوت فيه نظر النظّار ويتعارض فيه الخواطر. قال: والنظر الذي لا يتفاوت ينقسم إلى ما يقع في مرتبة البديهي، كعلمنا أنّ المخنق والقتال بالمثقل عامد للقتل، ومن أضمر خلافه يُسَفَّهُ في عقله، وإلى ما يقع في مرتبة النظري، كعلمنا بوجوب القصاص عليه، فإنّ من علم مقصود الشارع من القصاص في الحقن والعصمة استبان بأدنى نظر على القطع إيجاب القصاص، ولا ينبغي أن يتمارى فيه، وكذلك علمنا بأنّ العقوبات الرادعة عن الفواحش شُرِعت زجراً عنها، وإذا تجمّعت أسبابها من ارتكاب الفاحشة مع تمحّض التحريم ومسيس الحاجة إلى الزجر فلابدّ منه، كعلمنا بأنّ العدول إذا شهدوا على الزنا فلا يسقط الحدّ بقول المشهود عليه: صدقوا، كما قاله أبو حنيفة، وكعلمنا بأنّ الحدّ لا يتعلّق إلاّ بفاحشة، ولكن الشرع تولّى بيانه فإنّا لا ندركه بأفهامنا، وقد خصّصها بتغييب الحشفة واستثنى مقدّماته من معانقة وتقبيل ومماسّة منها، وعلمنا بأنّ أقلّ مراتب موجب العقوبة أن يتمحّض تحريمه، فالوطىء بالشبهة لا يوجب الحدّ، وإشارته إلى الذي صادف امرأة على فراشه ظنّها حليلته القديمة.
قال: فهذه جهة لا يتفاوت فيها نظر العقلاء، ولا اكتراث بمخالفة أبي حنيفة، فإنّي أقطع بخطائه في تسعة أعشار مذاهبه التي خالف فيها خصومه، فإنّه أتى فيها بالزلل في قواعد اُصوليّة يترقّى القول فيها عن مظانّ الظنون، كتقديمه القياس على الخبر ورجوعه إلى الإستحسان الذي لا مستند له، وزعمه أنّ الزيادة على النصّ نسخ في مسائل ذكرناه، وتمسكه بمسائل شاذّه في خرم القواعد، فليس الكلام معه فيها مظنّة النظر في المظنونات، والعشر الباقي يستوي فيه قدمه وقدم خصومه ولعلّهم يرجّحون عليه»(3).
وفي (المنخول) أيضاً:
«قال الشافعي: من استحسن فقد شرّع، ولابدّ أوّلاً من بيان حقيقة الإستحسان، وقد قال قائلون من أصحاب أبي حنيفة: الإستحسان مذهب لا دليل عليه.
وهذا كفر من قائله وممّن يجوّز التمسّك به بلا حاجة فيه إلى دليل»(4).
وفيه:
«قال أبو حنيفة: لا يجري القياس في الحدود و…… والمقدّرات والرخص، ثمّ أفحش القياس في درء الحدود في السرقة والقصاص حتّى أبطل قاعدة الشرع، وفي إثباتها حتّى أوجب الحدّ في شهود الزوايا، وأوجب قطع السرقة بشهادة شاهدين يشهد أحدهما على أنّه سرق بقرة بيضاء ويشهد الآخر على بقرة سوداء، لاحتمال أنّ البقرة كانت ملمّعة، وقاس غير الجماع على الجماع في الصوم في إيجاب الكفّارة، والخطاء في قتل الصيد على العمد في إيجاب الجزاء مع اختصاص النصّ بالعمد، وقدّر نزح ماء البئر عند نجاسته بثلاثين دلواً قياساً، ولا ينفعهم قولهم إنّا قلّدنا الأوزاعي، فإنّهم أبوا عن تقليد الصحابة في مسائل فكيف قلّدوه؟ وقدّروا العفو عن النجاسة بربع الثوب والمسح على الرأس بربعه، وقاسوا في الرخص سائر النجاسات على مقدار ما عفي عنه على محلّ النَّجْو رخصة، فقد خبطوا هذه الاُصول»(5).
وجاء في آخر كتاب (المنخول):
«إنّ أباحنيفة نزق حمام ذهنه في تصوير المسائل وتقرير المذاهب، فكثر خبطه لذلك، ولهذا استنكف أبو يوسف ومحمّد عن اتّباعه في ثلثي مذهبه، لما رأيا فيه من كثرة الخبط والخلط والتورّط في المتناقضات، وصرف الشافعي ذهنه إلى انتخاب المذاهب وتقديم الأظهر فالأظهر، وأقدم عليه بقريحة وقّادة وفطنة منقادة وعقل ثاقب ورأي صائب، بعد الإستظهار بعلم الاُصول والإستمداد من جملة أركان النظر في المعقول والمنقول، فيستبان على القطع أنّه أبعد عن الزلل والخطأ ممّن اشتغل بالتمهيد، وتشوّش الأمر عليه في روم التأسيس والتقعيد.
وعلى الجملة، إذا قدم مذهب أبي حنيفة على مذهب أبي بكر لتأخّره وشدّة اعتنائه بالنخل، فاعتبار التأخّر في نسبة الشافعي إلى أبي حنيفة ومن قبله أبين وأوضح»(6).
ثمّ قال:
«المسلك الثالث أن نستقري مذاهب الأئمة، ليتبيّن تقديم الشافعي على القطع:
فأمّا مالك، فقد استرسل على المصالح إسترسالاً جرّه ذلك إلى قتل ثلث الاُمّة لاستصلاح ثلثيها، وإلى القتل في التعزير والضرب بمجرّد التّهم، إلى غيره ممّا أومأنا إليه في أثناء الكتاب…
وأمّا أبو حنيفة، فقد قلّب الشريعة ظهراً لبطن وشوّش مسلكها وغيّر نظامها»(7).
إلى أن قال:
«ولا يخفى فساد مذهبه في تفاصيل الصلاة، والقول في تفاصيلها يطول، وثمرة خبطه بيّن فيما عاد إليه أقلّ الصلاة عنده، وإذا عرض أقلّ صلاته على كلّ عامي جلف كاعّ امتنع عن اتّباعه، فإنّ من انغمس في مستنقع نبيذ، وخرج في جلد كلب مدبوغ، ولم ينو، وأحرم للصلاة مبدّلاً صيغة التكبير بترجمته تركيّاً كان أو هنديّاً، ويقتصر في قراءة القرآن على ترجمة قوله (مدهامّتان)ثمّ يترك الركوع وينقر نقرتين لا قعود بينهما ، ولا يقرأ التشهّد، ثمّ يحدث عمداً في آخر صلاته بدلاً عن التسليم، ولو انفلت منه أو سبقت له حدث يعيد الوضوء في أثناء صلاته، ويحدث بعده عمداً فإنّه لم يكن قاصداً في حدثه الأوّل، تحلّل عن صلاته على الصحّة.
والذي ينبغي أن يقطع به كلّ ذي دين: أنّ مثل هذه الصلاة لا يبعث الله بها نبيّاً، وما بعث محمّد بن عبدالله صلوات الله عليه بدعاء الناس إليه، وهي قطب الإسلام وعماد الدين، وقد زعم أنّ هذا القدر أقلّ الواجب فهي الصلاة التي بعث بها النبيّ وما عداها آداب وسنن.
وأمّا الصوم، فقد استأصل ركنه وردّه إلى نصفه، حيث لم يشترط تقديم النيّة.
وأمّا الزكاة، فقد قضى أنّها على التراخي، فيجوز تأخيرها وإن كانت الحاجة ماسّة، وأعين المساكين إليها ممتدّة، ثمّ زعم أنّها تسقط بموته قبل أدائها، وكان قد جاز له التأخير، وهل هذا إلاّ إبطال غرض الشارع من مراعاة حقّ المساكين.
ثمّ عكس هذا في الحجّ الذي لا ترتبط به حاجة مسلم،وزعم أنّه على الفور.
فهذا صنيعه في العبادات.
وأمّا العقوبات، فقد أبطل مقاصدها وخرم أصولها وقواعدها، فإنّ ممّا رام الشرع عصمة الدماء والفروج والأموال، وقد هدم قاعدة القصاص بالقتل بالمثقل، فمهّد التخنيق والتغريق والقتل بأنواع المثقلات ذريعة إلى درء القصاص، ثمّ زاد عليه حتّى ناكر الحسّ والبديهة وقال: لم يقصد قتله وهو شبه عمد.
وليت شعري كيف يجد العاقل من نفسه أن يعتقد مثل ذلك تقليداً، لولا فرط الغباوة وشدّة الخذلان؟!
وأمّا الفروج، فإنّه مهّد ذرائع أسقط الحدّ بها، مثل الإجارة ونكاح الاُمّهات، وزعم أنّها دارئة للحدّ، ومن يبغ البغاء بمؤمنة كيف يعجز عن استيجارها، ومن عذيرنا من ذلك؟
ثمّ دقّق نظره منعكساً في إيجاب الحدّ في مسألة شهود الزوايا، زاعماً إنّي تفطّنت لدقيقة وهي انزحافهم في زنية واحدة على الزوايا، ثمّ قال: لو شهد عليه أربعة عدول بالزنا فأقرّ مرّة واحدة سقط الحدّ عنه، ثمّ أوجب الحدّ في الوطي بالشبهة إذا صادف أجنبيّة على فراشه فظنّ أنّها حليلته القديمة، وأقلّ موجبات العقوبات ما تمحّض تحريمه، والذاهل المخطي لا يوصف فعله بالتحريم.
وأمّا الأموال، فإنّه زعم أنّ الغصب فيها مع أدنى تغيير مزيل ملك المالك عنها، كطحن الحنطة وشيّ الشاة»(8).
إلى أن قال:
«ثمّ أردف جميع قواعد الشريعة بأصل هدم به شرع محمّد صلّى الله عليه قطعاً حيث قال: شهود الزور إذا شهدوا كاذبين على نكاح زوجة الغير وقضى به القاضي بخطأ، حلّت الزوجة للمشهود له وإن كان عالماً بالتزوير، وحرمت على الأوّل بينه وبين الله تعالى»(9).
قال:
«ولولا شدّة الغباوة وقلّة الدراية وتدرّب القلوب على اتّباع التقليد والمألوف، لما اتّبع مثل هذا المتصرّف في الشرع من سلم حسّه فضلاً عمّن يشتدّ نظره، ولهذا اشتدّ المطعن والملعن من سلف الأئمة فيه، إلى أن اتّهموه برومه خرم الشرع، وهو الذي قطع به القاضي أبوبكر في قوله في مسألة المثقل قال: من زعم أنّ القاتل لم يتعمّد القتل به إن لم يعلم نقيضه فليس من العقلاء وإن علمه فقد رام خرم الدين»(10).
أقول:
هكذا يتكلّم الغزالي في أبي حنيفة، ثمّ بالتالي يلعنه بصراحة، وإذا علمنا أنّ الغزالي يمنع من لعن المسلم، بل لا يجوّز لعن يزيد بن معاوية، عرفنا حال أبي حنيفة عنده! وهذه عباراته على ما في (تاريخ ابن خلّكان) وغيره من كتب أكابرهم الأعيان:
«لا يجوز لعن المسلم أصلاً، ومن لعن مسلماً فهو الملعون، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: المسلم ليس بلعّان، وكيف يجوز لعن المسلم ولا يجوز لعن البهائم وقد ورد النهي عن ذلك؟ وحرمة المسلم أعظم من حرمة الكعبة بنصّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ويزيد صحّ إسلامه وما صحّ قتله الحسين رضي الله عنه ولا أمره ولا رضاه بذلك، ومهما لم يصحّ ذلك منه لا يجوز أن يظنّ ذلك به، فإنّ إساءة الظنّ أيضاً بالمسلم حرام وقد قال الله تعالى: (إجتنبوا كثيراً من الظنِّ إنّ بعض الظنّ إثمٌ) وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إنّ الله تعالى حرّم من المسلم دمه وماله وعرضه وأن يظنّ به ظنّ السوء، ومن زعم أنّ يزيد أمر بقتل الحسين أو رضي به فينبغي أن يعلم به غاية حماقته، فإنّ من قُتِلَ من الأكابر والوزراء والسلاطين في عصره لو أراد أن يعلم حقيقة من الذي أمر بقتله ومن الذي رضي به ومن الذي كرهه، لم يقدر على ذلك وإن كان قد قتل في جواره وزمانه وهو يشاهده، فكيف لو كان في بلد بعيد وفي زمن بعيد وقد انقضى عليه قريب من أربع مائة سنة في مكان بعيد، وقد تطرّق التقصير في الواقعة فكثرت فيها الأحاديث من الجوانب؟، فهذا أمر لا يعرف حقيقته أصلاً، وإذا لم يعرف وجب إحسان الظنّ بكلّ مسلم، ومع هذا، فلو ثبت على مسلم أنّه قتل مسلماً فمذهب أهل الحقّ أنّه ليس بكافر، والقتل ليس بكفر، بل هو معصية، وربّما مات بعد التوبة، والكافر لو تاب من كفره لم يجز لعنته فكيف من تاب عن قتل، وبم يعرف أنّ قاتل الحسين رضي الله عنه مات قبل التوبة (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده).
فإذاً لا يجوز لعن أحد ممّن مات من المسلمين، ومَنْ لعنه كان فاسقاً عاصياً لله تعالى، ولو جاز لعنه فسكت لم يكن عاصياً بالإجماع، بل لو لم يلعن إبليس طول عمره لا يقال له في القيامة لم لم تلعن إبليس ويقال للاّعن: لمن لعنت؟ ومن أين عرفت أنّه مطرود ملعون؟ والملعون هو المبعد من الله تعالى، وذلك غيب لايعرف إلاّ في مَنْ مات كافراً، فإنّ ذلك علم بالشرع، وأمّا الترحّم عليه فهو جائز، بل مستحب، بل هو داخل في قولنا في كلّ صلاة: اللّهمّ اغفر للمؤمنين والمؤمنات فإنّه كان مؤمناً. والله أعلم»(11).
(1) حياة الحيوان للدميري 1: 370.
(2) المنخول في علم الاصول: 469 ـ 471.
(3) المنخول من علم الاصول: 438 ـ 439.
(4) المنخول: 374 ـ 375.
(5) المنخول: 385 ـ 386.
(6) المنخول: 496.
(7) المنخول: 499 ـ 500.
(8) المنخول: 500 ـ 502.
(9) المنخول: 503.
(10) المنخول: 503 ـ 504.
(11) وفيات الأعيان 3: 288 ـ 289.