الإستحسان من أسباب تحريف الدين
وهذه عبارة الدهلوي في بيان أسباب تحريف الدين:
«ومنها: الإستحسان، وحقيقته أن يرى رجل الشارع يضرب لكلّ حكمة مظنّة مناسبة، ويراه يعقد التشريع، فيختلس بعض ما ذكرنا من أسرار التشريع، فيشرع للنّاس حسبما عقل من المصلحة، كما أنّ اليهود رأوا أنّ الشارع إنّما أمر بالحدود زجراً عن المعاصي للإصلاح، ورأوا أنّ الرجم يورث اختلافاً وتقاتلاً بحيث يكون في ذلك أشدّ الفساد، واستحسنوا تحميم الوجه والجلد، فبين النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه تحريف ونبذ لحكم الله المنصوص في التوراة بآرائهم»(1).
وقال الغزالي في (المنخول) في كتاب القياس:
«الباب السادس في الاستحسان: قال الشافعيّ: من استحسن فقد شرّع.
ولابدّ أوّلاً من بيان حقيقة الاستحسان، وقد قال قائلون من أصحاب أبي حنيفة: الاستحسان مذهب لا دليل عليه، وهذا كفر من قائله وممّن يجوّز التمسّك به، فلا حاجة فيه إلى دليل.
وقال قائلون: هو معنى خفي مقيس لا عبارة عنه، وهذا أيضاً هوس، فإنّ معاني الشرع إذا لاحت في العقول انطلقت الألسن بالتعبير عنها، فما لا عبارة عنه لا يعقل.
والصحيح في ضبط الإستحسان ما ذكره الكرخي، وقد قسّمه أربعة أقسام:
منها: إتّباع الحديث وترك القياس، كما فعلوا في مسألة القهقهة ونبيذ التمر.
ومنها: إتّباع قول الصحابي على خلاف القياس، كما قالوا في تقدير اُجرة ردّ العبد الآبق بأربعين درهماً، اتّباعاً لابن عبّاس، وتقدير ما يحطّ عن قيمة العبد إذا ساوى دية الحرّ أو زاد بعشرة، اتّباعاً لابن مسعود.
ومنها: إتّباع عادات النّاس وما يطّرد به عرفهم، كمصيرهم إلى أنّ المعاطاة صحيحة; لأنّ الأعصار لا تنفك عنه، ويغلب على الظنّ جريانه في عصر الرسول.
ومنها: إتّباع معنى خفي هو أخصّ بالمقصود وأمسّ له من المعنى الجلي.
فنقول: أمّا اتّباع الخبر تقديماً له على القياس فواجب عندنا، وأبو حنيفة لم يفت به في مسألة المصراة والعرايا وخيار المتبايعين، فلم يستحسنوا اتّباع هذه الأحاديث مع اتّفاق أئمة الحديث على صحّتها وضعف حديث القهقهة.
وأمّا قول الصحابي إذا خالف القياس، فهو متّبع عندنا، وخالف أبو حنيفة في مسألة تغليظ الدية مع ما نقل فيه من الصحابة، وتقدير ابن عبّاس اُجرة الآبق بأربعين يحتمل أن يكون بحكم مصالحة أو مصلحة اقتضاها نزاع في تلك الحال، وقول ابن مسعود في قيمة العبد يلتفت إلى قياس الدية ومراعاتها، وتقديره في الحطّ ملاحظة لنصاب السرقة فإنّه عظيم في الشرع يظهر التفاوت به فلذلك لم نتّبعه.
وأمّا دعواه بأنّ عمل النّاس متّبع في المعاطاة; لأنّ الأعصار فيه تتقارب، تحكّم; فإنّا نعلم أنّ العقود الفاسدة والربويّات في عصرنا أكثر منه في ابتداء الإسلام وصفوته، وعوام الناس لا مبالاة بإجماعهم حتّى يتمسّك بعملهم.
وأمّا اتّباع المعنى الخفي إذا كان أخصّ، فهو متّبع، لأنّ الجلي الذي لا يمسّ المقصود باطل معه إذ هو مقدّم عليه، ولكن أباحنيفة لم يفت بموجبه حتّى أتى بالعجائب والآيات وسمّاه استحساناً فقال: يجب الحدّ على من شهد عليه أربعة بالزناء في أربع زوايا كلّ واحد يشهد على زاوية. وقال: لعلّه كان ينزحف في زنية واحدة في الزوايا، وأيّ استحسان في سفك دم مسلم بمثل هذا الخيال، مع أنّه لو خصّص كلّ واحد شهادته بزمان وتقاربت الأزمنة واحتمل استدامة الزنا في مثلها لا حدّ، وذلك أغلب في العرف من شغل زوايا البيت بزناء واحد، فهذا وأمثاله من الإستحسانات باطلة، وما استند إلى مأخذ ممّا ذكرناه صحيح فهو مقول به»(2).
(1) حجة الله البالغة 1: 121.
(2) المنخول للغزالي: 374 ـ 377.