أبو حنيفة في تاريخ الخطيب
وقد قال الخطيب بعد أن أورد عن جماعة من الأئمة المدح لأبي حنيفة:
«والمحفوظ عند نقلة الحديث من الأئمة المتقدمين ـ وهؤلاء المذكورون منهم ـ في أبي حنيفة خلاف ذلك، وكلامهم فيه كثير، لاُمور شنيعة حفظت عليه، متعلّق بعضها باُصول الديانات وبعضها بالفروع، ونحن ذاكروها بمشية الله عزوجل، ومعتذرون إلى من وقف عليها وكره سماعها، بأنّ أبا حنيفة عندنا مع جلالة قدره اُسوة غيره من العلماء الذين دوّنّا ذكرهم في هذا الكتاب، وأوردنا أخبارهم وحكينا أقوال الناس فيهم على تباينها، والله الموفق للصواب»(1).
أقول:
وهذه أسماء الأئمة الذين ذكر الخطيب آرائهم في أبي حنيفة، فهم:
ابن عيينة، وابن المبارك، وأبو يحيى الحماني، وابن عيّاش، وأحمد الخزاعي، والقاسم بن معن، ومالك بن أنس، ومحمّد بن إدريس الشافعي، والأوزاعي، ومسعر بن كدام، وإسرائيل، ومعمر، والفضيل بن عياض، وأبو يوسف، وأيّوب، وسفيان، وأبو مطيع الحكم بن عبدالله، ويزيد بن هارون، وأبو عاصم النبيل، وعبدالله بن داود الخريبي، وعبدالله بن يزيد المقري، وشداد بن حكيم، ومكي بن إبراهيم، ووكيع، والنضر بن شميل، ويحيى بن سعيد القطان، وأبو عبيد، والحسن بن عثمان العاضي، ويزيد بن ذريع، وجعفر بن ربيع، وإبراهيم بن عكرمة القزويني، وعلي بن عاصم، والحكم بن هشام، وعبدالرزاق، والحسن بن محمّد الليثي، ويحيى بن أيّوب، وحفص بن عبدالرحمن، وزافر بن سليمان، وأسد بن عمرو، والحسن بن عمارة، ويحيى ابن فضيل، وأبوالجويرية، وزائدة، ويزيد الكميت، وعلي بن حفص البزاز، ومليح بن وكيع، ومحمّد بن عبدالرحمن المسعودي، ويوسف السمتي، وخارجة بن مصعب، وقيس بن الربيع، وحجر بن عبدالجبّار، وحفص بن حمزة القرشي، والحسن بن زياد، وجعفر بن عون العمري، وعبدالله بن رجا الغداني، ومحمّد بن عبدالله الأنصاري، وعبدالله بن عباب، وحجر بن عبدالله الحضرمي، وابن وهب العابد، وابن عائشة».
قال الخطيب:
«ذكر القوم الذين ردّوا على أبي حنيفة: أيّوب السختياني، وجرير بن حازم، وهمام بن يحيى، وفلان وفلان، فعدّد خمسة وثلاثين رجلاً، العجب أنّ فيهم عبدالله بن المبارك وحفص بن غياث، وهذان من أصحاب أبي حنيفة; أمّا عبدالله بن المبارك فأخذ العلم عنه واشتهر بذلك، وأمّا حفص بن غياث فمن مشهوري أصحابه والآخذين عن أصحابه»(2).
ثمّ إنّ الخطيب جعل يروي بالأسانيد كلمات القوم في أبي حنيفة، كروايته عن الحميدي قال: «حدّثنا حمزة بن الحارث بن عمير عن أبيه قال: سمعت رجلاً يسأل أبا حنيفة في المسجد الحرام:
عن رجل قال: أشهد أنّ الكعبة حقّ، ولكن لا أدري هل هي هذه التي بمكّة أم لا؟ فقال: مؤمن حقّاً. وسأله عن رجل قال: أشهد أنّ محمّد بن عبدالله نبيّ، ولكن لا أدري هو الذي قبره بالمدينة أم لا؟ فقال: مؤمن حقّاً. وقال الحميدي: ومن قال هذا فقد كفر»(3).
وروى بإسناده عن يحيى بن حمزة ـ وسعيد يسمع ـ: «أن أبا حنيفة قال: لو أنّ رجلاً عبد هذه النعل يتقرّب بها إلى الله لم أر بذلك بأساً. فقال سعيد: هذا الكفرصراحاً»(4).
وجاء في (تاريخ بغداد) قول الخطيب في أبي حنيفة:
«إنّه كان مذهبه مذهب جهم»(5).
وقوله:
«وأمّا القول بخلق القرآن فقد قيل: إنّ أباحنيفة لم يكن يذهب إليه، المشهور إنّه كان يقوله واستتيب منه»(6).
وذكر الروايات في من حكى عن أبي حنيفة القول بخلق القرآن وأطال، فروى أشياء منها: «كان أبو حنيفة في مجلس عيسى بن موسى فقال: القرآن مخلوق. فقال: أخرجوه فإن تاب وإلاّ فاضربوا عنقه»(7) .
والقول يخلق القرآن كفرٌ، كما هو في أسفارهم مذكور وعلى ألسنتهم مشهور…
وروى بإسناده عن شريك بن عبدالله ـ قاضي الكوفة ـ: «إن أبا حنيفة استتيب من الزندقة مرّتين».
وعن عبدالله بن أحمد بن حنبل ـ إجازةً ـ حدثني أبو معمر قال: قيل لشريك: «ممّ استتبتم أبا حنيفة؟ قال: من الكفر».
وعن معاذ بن معاذ ويحيى بن سعيد: سمعنا سفيان يقول: «استتيب أبو
حنيفة من الكفر مرتين. وقال يعقوب: مراراً».
وعن أبي بكر ابن أبي داود السجستاني أنه قال يوماً لأصحابه: «ما تقولون في مسألة اتفق عليها مالك وأصحابه، والشافعي وأصحابه، والأوزاعي وأصحابه، والحسن بن صالح وأصحابه، وسفيان الثوري وأصحابه، وأحمد بن حنبل وأصحابه؟
فقالوا له: يا أبا بكر، لا تكون مسألة أصحّ من هذه.
فقال: هؤلاء كلّهم اتفقوا على تضليل أبي حنيفة»(8).
أقول:
ومن هنا ترى أن عارفهم الرّباني الشيخ عبدالقادر الجيلاني يقول في كتابه (غنية الطالبين) إن أبا حنيفة مرجئ والحنفيّة مرجئة، فيخرجهم عن الإسلام بمقتضى الحديث في صحيح الترمذي، وهذا كلامه:
«عن عبدالله بن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين فرقة كلّها في النّار إلاّ فرقة واحدة، وستفترق اُمّتي على ثلاثة وسبعين فرقة كلّها في النّار إلاّ واحدة. قالوا: يا رسول الله! وما تلك الواحدة؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي».
فقال:
«فأصل ثلاث وسبعين فرقة عشر: أهل السنّة والخوارج والشيعة والمعتزلة والمرجئة والمشبّهة والجهميّة والضراريّة والنجاريّة والكلابيّة، فأهل السنّة طائفة واحدة».
ثمّ قال:
«أمّا المرجئة، ففرقها اثنا عشر فرقة: الجهمية والصالحيّة والشمريّة واليونسيّة واليونانيّة والنجاريّة والغيلانيّة والشبيهيّة والحنفيّة والمعاذيّة والمريسيّة والكرامية».
ثمّ قال:
«أمّا الحنفيّة، فهم أصحاب أبي حنيفة نعمان بن ثابت، زعم أنّ الإيمان هو المعرفة والإقرار بالله ورسوله وبما جاء به من عنده جملة، على ما ذكره البرهوقي في كتاب الشجرة».
وقد تألّم الشيخ علي القاري من هذا الكلام بشدّة فقال في (شرح الفقه الأكبر):
«وأمّا ما وقع في الغنية للشيخ عبدالقادر الجيلاني رضي الله عنه، عند ذكر الفرق الغير الناجية حيث قال: ومنهم القدريّة، وذكر أصنافاً منهم ثمّ قال: ومنهم الحنفيّة وهم أصحاب أبي حنيفة نعمان بن ثابت، زعم أنّ الإيمان هو المعرفة والإقرار بالله ورسوله وبما جاء من عنده جملة على ما ذكره البرهوقي في كتاب الشجرة، فهو اعتقاد فاسد وقول كاسد، مخالف لاعتقاده في الفقه الأكبر…»(9).
أما ابن قتيبة، فقد ذكر في عداد المرجئة القاضي أبا يوسف واستاده أبا حنيفة واستاد أستاده أعني حماداً، وكذا رفيقه أعني محمّداً، وذلك في (كتاب المعارف) حيث قال:
«أسماء المرجئة: إبراهيم التيمي، عمرو بن مرّة، أبوذر الهمداني، طلق ابن حبيب، حمّاد بن أبي سليمان، أبو حنيفة الفقيه، عبدالعزيز بن أبي رواد، ابنه عبدالحميد، خارجة بن مصعب، عمر بن قيس الماصر، أبو معاوية الضرير، يحيى بن زكريا، ابن أبي زائدة، أبو يوسف صاحب الرأي، محمّد بن الحسن، محمّد بن السائب، مسعر بن كدام»(10).
وعن السليماني القول بكون أبي حنيفة من المرجئة كما في كتاب (ميزان الإعتدال):
«أمّا مسعر بن كدام فحجّة إمام، ولا عبرة بقول السليماني: كان من المرجئة مسعر وحمّاد بن أبي سليمان والنعمان وعمرو بن مرّة وعبدالعزيز بن أبي رواد وأبو معاوية وعمر بن ذر، وسرد جماعة. قلت: الإرجاء مذهب لعدّة من جلّة من العلماء لا ينبغي التحامل على قائله»(11).
وقال ابن الجوزي في (تلبيس ابليس) عن المرجئة:
«قالت المرجئة: إنّ من أقرّ بالشهادتين وأتى بكلّ المعاصي لم يدخل النّار أصلاً، وخالفوا الأحاديث الصحاح في إخراج الموحّدين من النّار. قال ابن عقيل: ما أشبه أن يكون واضع الإرجاء زنديقاً، فإنّ صلاح العالم بإثبات الوعيد واعتقاد الجزاء، والمرجئة لمّا لم يمكنهم جحد الصانع ـ لما فيه من نفور الناس ومخالفتهم أسقطوا فائدة الإثبات وهي الحسبة والمراقبة، وهدموا سياسة الشرع، فهم شرّ طائفة على الإسلام»(12).
والأفظع من ذلك كلّه ما رواه الحافظ الخطيب البغدادي مسنداً إلى أبي إسحاق الفزاري أنّه قال: «كنت آتي أبا حنيفة أسأله عن الشيء من أمر الغزو، فسألته عن مسألة فأجاب فيها.
فقلت له: إنّه يروى عن النبيّ كذا وكذا.
قال: دعنا من هذا.
وقال: وسألته يوماً آخر عن مسألة فأجاب فيها.
فقلت له: إن هذا يروى عن النبيّ فيه كذا وكذا.
فقال: حُكّ هذا بذَنَبِ خنزير»(13).
ولهذه الامور وغيرها، فقد أطال الخطيب البغدادي الكلام بترجمة أبي حنيفة، فذكر:
«ما قاله العلماء في أمر رأيه والتحذير عنه» وبدأ بالطعن على من قال بالرأي، وما ورد من الأخبار فيه، وأورد السباب، وأنّه دجّال، وأنّه ما ولد في الإسلام مولود أضرّ منه.
وهكذا سعى الخطيب في ذكر عيوب أبي حنيفة والحطّ عليه والطعن فيه… بما لا يمكن تأويله وتوجيهه وحمله، وقد اعتذر قبل أن يشرع في ذلك بأن قال: «قد سقنا عن أيّوب السنحتياني وسفيان الثوري وابن عيينة وأبي بكر ابن عيّاش وغيرهم من الأئمّة أخباراً كثيرة تتضمّن تقريظ أبي حنيفة والمدح له والثناء عليه. والمحفوظ عند نقلة الحديث من الأئمة المتقدّمين وهؤلاء المذكورين منهم في أبي حنيفة خلاف ذلك وكلامهم فيه كثير، لاُمور شنيعة حفظت عليه».
وقال الشيخ عبدالحق الدهلوي في (تحصيل الكمال) في ترجمة أبي حنيفة في ذكر مسنده الذي جمعه أبوالمؤيّد الخوارزمي: «ورتّبه على أبواب الفقه وذبّ عنه ما تكلّم فيه بعض النّاس، خصوصاً الخطيب البغدادي المتعصّب المكابر مع هذا الإمام العظيم الشأن، ولقد ناقض هذا الرجل المكابر نفسه في ما ذكر من المطاعن والعيوب، وتهافت كلامه في ذلك وتساقط من القلوب».
(1) تاريخ بغداد 13: 370 .
(2) تاريخ بغداد 13: 370.
(3) تاريخ بغداد 13: 372.
(4) تاريخ بغداد 13: 374.
(5) تاريخ بغداد 13: 381.
(6) تاريخ بغداد 13: 383.
(7) تاريخ بغداد 13: 386.
(8) تاريخ بغداد 13: 394.
(9) شرح الفقه الأكبر للقاري: 119.
(10) المعارف لابن قتيبة: 625.
(11) ميزان الاعتدال 6: 409/8476.
(12) تلبيس ابليس: 97.
(13) تاريخ بغداد 13: 401.