أبو حنيفة النعمان بن ثابت
رسالة إمام الحرمين
لقد ألَّف إمام الحرمين الجويني(1) رسالةً في ذمّ أبي حنيفة والطعن على أقواله وفتاواه، وأسماها «مغيث الخلق في اختيار الحق». وقد تركت هذه الرسالة أثراً بالغاً في نفوس الناس، وتحيّر الحنفيّة في علاج الأمر، ولم يجد بعضهم بدّاً من انكار الرسالة ونفي كونها لإمام الحرمين وزعم أنّها موضوعة عليه، كالشيخ ملاّ علي القاري، فإنّه كتب جواباً عنها وقال في خطبته:
«يقول أفقر عباد الله الغني الباري علي بن سلطان الهروي القاري: رأيت رسالة مصنوعةً في ذمّ مذهب السّادة الحنفيّة ـ الذين هم قادة الاُمّة الحنفيّة وأكثر أهل الملّة الاسلاميّة ـ وموضوعة، فيها أشياء من أعجب العجاب التي تشير إلى أنّ قائلها جاهل أو كذّاب، وهي منسوبة إلى أبي المعالي عبدالملك ابن عبدالله بن يوسف الجويني المشهور بإمام الحرمين، من أكابر علماء مذهب الشافعي، وحسن ظنّي به أنّ أحداً من الخوارج أو الرافضة ـ الحاسدين لاجتماع أهل السنّة والجماعة على طريقة واحدة مشتملة على المستنبط من الكتاب والسنّة وإجماع الاُمّة والقياس المعتبر عند الأئمة ـ كتب هذه الرسالة ونسبها إليه، ليكون سبباً لرواج بضاعته المزجاة لديه، ووسيلة إلى مهابة العوام والجهلة في الردّ عليه، كما يدلّ على ما قلنا ركاكة ألفاظه…».
إلاّ أنّ القاري تنبّه في آخر الرسالة إلى غفلته والتفت إلى سوء ظنّه وفساد توهّمه فقال:
«ثمّ اعلم أنّي كنت أظنّ أنّ الرسالة المصنوعة إنّما يكون على إمام الحرمين موضوعة، لكن رأيت في بعض الكتب أنّه ذكرها اليافعي في كتابه مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان وتقلّب أحوال الإنسان».
أقول: وهذه نصوص ألفاظ ما جاء في (مرآة الجنان) في ذلك:
«وممّا ذكروا عن السلطان محمود ما هو مشهود، ومن فضل مذهب الشافعي معدود: ما سيأتي الآن ذكره ويعلم منه فضل المذهب المذكور وفخره، قصّة عجيبة مشتملة على نادرة غريبة، وهي ما ذكر إمام الحرمين، فحل الفروع والأصلين، أبوالمعالي عبدالملك ابن الشيخ الإمام أبي محمّد الجويني، في كتابه الموسوم بـ«مغيث الخلق في اختيار الحق»: إنّ السلطان محمود المذكور كان على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، وكان مولعاً بعلم الحديث، وكان الناس ـ أو قال: الفقهاء ـ يسمعون الحديث من الشيوخ بين يديه…»(2).
(1) وهو: أبو المعالي عبدالملك الشافعي، المتوفى سنة 478، توجد ترجمته في: طبقات الشافعية للسبكي 5: 165، وفيات الأعيان 3: 167، المنتظم 9: 18، سير أعلام النبلاء 18: 468.
(2) مرآة الجنان وعبرة اليقظان 3: 19.