نقد دفاع القوم عن البخاري
ثمّ إنّ القوم حاولوا تخليص البخاري من هذه الورطة، فأتعبوا أنفسهم وجهدوا كثيراً… فقد جاء في كتاب (الطبقات) بعد ما تقدَّم:
«وإنّما أراد محمّد بن يحيى ـ والعلم عند الله ـ ما أراده أحمد بن حنبل كما قدّمناه في ترجمة الكرابيسي، من النّهي عن الخوض في هذا، فلم يرد مخالفة البخاري، وإن خالفه وزعم أنّ لفظه الخارج من بين شفة المحدّثين قديم، فقد باء بإثم عظيم، والظنّ به خلاف ذلك، وإنّما أراد هو وأحمد وغيرهما من الأئمّة النهي عن الخوض في مسائل الكلام، وكلام البخاري عندنا محمول على ذكر ذلك عند الإحتياج إليه، فالكلام عند الإحتياج واجب، والسكوت عنه عند عدم الإحتياج سنّة.
فافهم ذلك ودع خرافات المؤرخين، واضرب صفحاً عن تمويهات الضالّين، الذين يظنّون أنّهم محدّثون وأنّهم عند السنّة واقفون، وهم عنها مبعدون.
وكيف يظنّ بالبخاري أنّه يذهب إلى شيء من أقوال المعتزلة، وقد صحّ عنه فيما رواه الفربري وغيره أنّه قال: إنّي لأستجهل من لا يكفر الجهميّة، ولا يرتاب المنصف في أنّ محمّد بن يحيى الذهلي لحقته الحسد التي لم يسلم منها إلاّ أهل العصمة، وقد سأل بعضهم البخاري عمّا بينه وبين محمّد بن يحيى فقال البخاري: كم يعتري محمّد بن يحيى الحسد في العلم، والعلم رزق الله يعطيه من يشاء، ولقد أطرف البخاري وأبان عن عظيم ذكائه حيث قال ـ وقد قال له أبو عمرو الخفّاف أنّ الناس خاضوا في قولك: لفظي بالقرآن مخلوق ـ يا أباعمرو، إحفظ ما أقول لك، من زعم من أهل نيسابور وقومس والري وهمدان وبغداد والكوفة والبصرة ومكّة والمدينة: أنّي قلت لفظي بالقرآن مخلوق، فهو كذّاب، فإنّي لم أقله، إلاّ أنّي قلت: أفعال العباد مخلوقة.
قلت: تأمّل كلامه ما أذكاه! ومعناه ـ والعلم عند الله ـ إنّي لم أقل لفظي بالقرآن مخلوق، لأنّ الكلام في هذا خوض في مسائل الكلام وصفات الله التي لا ينبغي الخوض فيها إلاّ للضرورة، ولكنّي قلت أفعال العباد مخلوقة، وهو قاعدة مغنية عن تخصيص هذه المسألة بالذكر، فإنّ كلّ عاقل يعلم أنّ لفظنا من جملة أفعالنا، وأفعالنا مخلوقة، فألفاظنا مخلوقة.
ولقد أفصح بهذا المعنى في رواية اُخرى صحيحة عنه، رواها حاتم بن أحمد الكيدري فقال: سمعت مسلم بن الحجّاج، فذكر الحكاية وفيها: أنّ رجلاً قام إلى البخاري فسأله عن اللّفظ بالقرآن فقال: أفعالنا مخلوقة وألفاظنا من أفعالنا، وفي الحكاية: أنّه وقع بين القوم إذ ذاك اختلاف على البخاري، فقال بعضهم: قال لفظي بالقرآن مخلوق، وقال آخرون: لم يقل.
قلت: فلم يكن الإنكار إلاّ على من تكلّم في القرآن، فالحاصل ما قدّمناه في ترجمة الكرابيسي، من أنّ أحمد بن حنبل وغيره من السادات الموفّقين، نهوا عن الكلام في القرآن جملة، وإن لم يخالفوا في مسألة اللفظ فيما نظنّه فيهم إجلالاً لهم وفهماً من كلامهم في غير رواية، ودفعاً لمحلّهم عن قول لا يشهد له معقول ولا منقول، وهو أنّ الكرابيسي والبخاري وغيرهما من الأئمّة الموفّقين أيضاً أفصحوا بأنّ لفظهم مخلوق لمّا احتاجوا إلى الإفصاح، هذا إن ثبت عنهم الإفصاح بهذا، وإلاّ فقد نقلنا لك قول البخاري أنّ من نقل عنه هذا فقد كذب عليه.
فإن قلت: إذا كان حقّاً لم لا يفصح به قلت: سبحان الله، قد أنبأناك أنّ السرّ فيه في الخوض في علم الكلام، خشية أن يَجُرَّ الكلام فيه إلى ما لا ينبغي وليس كلّ علم يفصح به، فاحفظ ما نلقيه إليك واشدد عليه يديك، ويعجبني ما أنشد الغزالي في منهاج العابدين لبعض أهل البيت(1):
إنّي لأكتم من علمي جواهره *** كي لا يرى الحقّ ذوجهل فيفتننا
يا رُبَّ جوهر علم لو أبوح به *** لقيل لي أنت ممّن تعبد الوثنا
ولاستحلّ رجال صالحون دمي *** يرون أقبح ما يأتونه حسنا
وقد تقدّم في هذا أبو حسن *** الحسين ووصّى قبله الحسنا»
أقول:
لكن كلام السبكي متهافت وركيك، ألا ترى أنّه يبادر إلى إنكار وقوع الخلاف بين الذهلي والبخاري، ثمّ يرجع فيرمي الذهلي بالحسد للبخاري، ثمّ تارةً يؤيّد القول بخلق التلفّظ بالقرآن، واُخرى ينكر أن يكون البخاري قائلاً بذلك!!
والحاصل: أنّه قد ذكر ثلاثة وجوه في الدفاع عن البخاري، أحدها: عدم الخلاف بين الذهلي والبخاري في المسألة. والثاني: إنّ ما قال الذهلي في البخاري ليس إلاّ عن الحسد له. والثالث: إنّه لم يثبت عن البخاري القول بأنّ لفظي بالقرآن مخلوق.
لكن الأوّل واضح البطلان، ولا سبيل لحمل كلام الذهلي في البخاري على أنّه إنّما كان نهياً عن الخوض في علم الكلام، وكيف يقول هذا؟ وهو ينقل عن الذهلي تكفير البخاري والردّ عليه والتكلّم فيه والمنع من الذهاب إليه والحضور عنده؟ وكيف يدّعي عدم وقوع الخلاف؟ وقد جاء في كتابه قبل هذا: «قصّته مع محمّد بن يحيى الذهلي» فقال: «قال الحسن بن محمّد بن جابر: قال لنا الذهلي لمّا ورد البخاري بنيسابور: إذهبوا إلى هذا الرجل الصالح فاستمعوا منه ،فذهب الناس إليه وأقبلوا على السماع منه، حتّى ظهر الخلل في مجلس الذهلي، فحسده بعد ذلك وتكلّم فيه…»(2).
وذكر ابن حجر في مقدّمة شرح البخاري: «ذكر ما وقع بينه وبين الذهلي في مسألة اللّفظ، وما حصل له من المحنة بسبب ذلك وبراءته ممّا نسب إليه» فقال:
«قال الحاكم أبو عبدالله في تأريخه: قدم البخاري بنيسابور سنة خمس وثلاثين، فأقام بها مدّة يحدّث على الدوام، قال: سمعت محمّد بن حازم البزار يقول: سمعت الحسن بن محمّد بن جابر يقول: سمعت محمّد بن يحيى يقول: إذهبوا إلى هذا الرجل الصالح العالم فاسمعوا منه. قال: فذهب الناس إليه وأقبلوا على السماع منه، حتّى ظهر الخلل في مجلس محمّد بن يحيى. قال: فتكلّم فيه بعد ذلك».
قال: «وقال أبو أحمد ابن عدي: ذكر لي جماعة من المشايخ: أنّ محمّد ابن إسماعيل لمّا ورد نيسابور واجتمع الناس عنده، حسده بعض شيوخ الوقت فقال لأصحاب الحديث: إنّ محمّد بن إسماعيل يقول لفظي بالقرآن مخلوق، فلمّا حضر المجلس قام إليه رجل فقال: يا أباعبدالله، ما تقول في اللّفظ بالقرآن، مخلوق هو أو غير مخلوق؟ فأعرض عنه البخاري ولم يجبه ثلاثاً، فألحّ عليه، فقال البخاري: القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة، والإمتحان بدعة، فشغب الرجل وقال: قد قال لفظي بالقرآن مخلوق».
قال: «وقال الحاكم: لمّا وقع بين البخاري وبين محمّد بن يحيى في مسألة اللّفظ، انقطع الناس عن البخاري إلاّ مسلم بن الحجّاج وأحمد بن مسلمة فقال الذهلي: ألا من قال باللّفظ فلا يحضرنا مجلسنا».
قال: «قال الحاكم أبو عبدالله: سمعت محمّد بن صالح بن هاني يقول: سمعت أحمد بن مسلمة النيسابوري يقول: دخلت على البخاري فقلت: يا أباعبدالله، إنّ هذا الرجل مقبول بخراسان خصوصاً في هذه المدينة، وقد لجّ في هذا الأمر حتّى لا يقدر أحد أن يكلّمه، فما ترى؟ قال: فقبض على لحيته وقال: واُفوّض أمري إلى الله إنّ الله بصير بالعباد، اللّهمّ إنّك تعلم أنّي لم أرد المقام بنيسابور أشراً ولا بطراً ولا طلباً للرياسة، وإنّما أبت نفسي الرجوع إلى الوطن لغلبة المخالفين، وقد قصدني هذا الرجل حسداً لما آتاني الله. ثمّ قال لي: يا أباأحمد، إنّي خارج غداً لتتخلّصوا من حديثه لأجلي».
وقال الحاكم أيضاً عن الحافظ أبي عبدالله ابن الأخرم قال: «لمّا قام مسلم بن الحجّاج وأحمد بن مسلمة من مجلس محمّد بن يحيى بسبب البخاري قال الذهلي: لا يساكنني هذا الرجل في البلد، فخشي البخاري وسافر»(3).
وكيف يجتمع القول بعدم وقوع الخلاف مع دعوى حسد الذهلي للبخاري؟
لكنّ دعوى الحسد أيضاً لا تحلّ المشكلة ولا تنفعهم بل تضرّهم، لاُمور:
(1) منهاج العابدين: 5. نسبه للإمام زين العابدين عليه السلام.
(2) طبقات الشافعية للسبكي 2: 228.
(3) هدي الساري = مقدّمة فتح الباري: 492.