من كلمات الأئمّة في الكتابين
وعلى الجملة، فإنّ الأحاديث الموضوعة والباطلة في كتاب مسلم كثيرة مثل كتاب البخاري، وقد أوردنا طرفاً منها ونكتفي بها.
ومن هنا، فقد قال الملاّ علي القاري في كتاب (الرجال) ما نصّه:
«وقد وقع منه ـ أي من مسلم ـ أشياء لا تقوى عند المعارضة.
فقد وضع الحافظ الرشيد العطّار كتاباً على الأحاديث المقطوعة، وبيّنها الشيخ محي الدين النووي في أوّل شرح مسلم.
وما يقوله الناس: أنّ من روى له الشيخان فقد جاز القنطرة، هذا أيضاً من التجاهل والتساهل.
فقد روى مسلم في كتابه عن الليث عن أبي مسلم وغيره من الضعفاء.
فيقولون إنّما روى عنهم في كتابه للاعتبار والشواهد والمتابعات.
وهذا لا يقوى، لأنّ الحفّاظ قالوا: الإعتبار اُمور يتعرّفون بها حال الحديث وكتاب مسلم التزم فيه الصحّة، فكيف يتعرّف حال الحديث الذي فيه بطريق ضعيفة.
وقال الحافظ: أبو الزبير محمّد بن مسلم المكّي يدلّس في حديث جابر، فما يصفه بالعنعنة لا يقبل، وقد ذكر ابن حزم وعبدالحقّ عن الليث بن سعد أنّه قال لأبي الزبير: علّم لي على أحاديث سمعتها من جابر حتّى أسمعها منك، فعلَّم لي على أحاديث أظنّ أنّها سبعة عشر حديثاً فسمعتها منه. قال الحافظ: فما كان من طريق الليث عن أبي الزبير عن جابر فصحيح.
وفي مسلم عن طريق الليث من أبي الزبير عن جابر بالعنعنة أحاديث.
وقد روى أيضاً في كتابه عن جابر وابن عمر في حجّة الوداع أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم توجّه إلى مكّة يوم النحر فطاف طواف الإفاضة ثمّ رجع فصلّى الظهر بمنى، فيوجّهون ويقولون: أعادها لبيان الجواز، وغير ذلك من التأويلات، ولهذا قال ابن حزم في هاتين الروايتين أحدهما كذب بلا شكّ.
وروى مسلم أيضاً حديث الإسراء فيه: وذلك قبل أن يوحى إليه، وقد تكلّم الحفّاظ في هذه اللّفظة وبيّنوا ضعفها.
وقد روى مسلم أيضاً: خلق الله التربة يوم السبت. واتفق الناس على أنّ السبت لم يقع فيه خلق، وأنّ ابتداء الخلق يوم الأحد.
وقد روى مسلم عن أبي سفيان أنّه قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم لمّا أسلم: يا رسول الله أعطني ثلاثاً: تزوّج ابنتي اُم حبيبة، وابني معاوية أجعله كاتباً، وأمّرني أن اُقاتل الكفّار كما قاتلت المسلمين، فأعطاه النبي صلّى الله عليه وسلّم ما سأله. والحديث معروف مشهور، وفي هذا من الوهم ما لا يُحصى، فاُمّ حبيبة تزوّجها النبي صلّى الله عليه وسلّم وهي بالحبشة، وأصدقها النجاشي أربعمائة دينار وحضر وخطب وأطعم، والقصّة مشهورة، وأبوسفيان وابنه معاوية إنّما أسلما عام الفتح، وبين الهجرة إلى الحبشة والفتح عدّة سنين، والجمهور على أنّها تزوّجها سنة ست وقيل سبع، وأسلم أبوسفيان عام الفتح سنة ثمان من الهجرة، وأمّا إمارة أبي سفيان فقد قال الحفّاظ أنّهم لا يعرفونها.
فيجيبون بأجوبة غير طائلة، فيقولون في إنكاح ابنته: إعتقد أنّ نكاحها بغير إذنه لا يجوز وهو حديث عهد بالكفر، فأراد النبي صلّى الله عليه وسلّم تجديد النكاح، ويذكرون عن الزبير بن بكّار بأسانيد ضعيفة أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أمّره في بعض الغزوات، وهذا لا يعرفه الأثبات.
وقد قال الحافظ: أنّ مسلماً لمّا وضع كتابه الصحيح عرضه على أبي زرعة، فأنكر عليه وتَغَيّظ وقال: سمَّيْتَه الصحيح وجعلته سُلَّماً لأهل البدع وغيرهم».
وقال ابن تيميّة:
«والمواضع المنتقدة غالبها في مسلم، وقد انتصر طائفة لهما ـ يعني للبخاري ومسلم ـ فيها، وطائفة قَوّت قول المنتقد، والصحيح التفصيل، فإنّ فيهما مواضع منتقدة بلا ريب مثل حديث: خلق الله التربة يوم السبت، وحديث: صلاة الكسوف بثلاث ركوعات وأكثر»(1).
وقال كمال الدين أبوالفضل الأدفوي في (الإمتاع في أحكام السماع):
«ثمّ أقول: إنّ الاُمّة تلقّت كلّ حديث صحيح وحسن بالقبول وعملت به عند عدم العارض، وحينئذ لا يختصّ بالصحيحين، وقد تلقّت الاُمّة الكتب الخمسة أو الستّة بالقبول وأطلق عليها جماعة إسم الصحيح، ورجّح بعضهم بعضها على كتاب مسلم وغيره.
قال أبو سليمان أحمد الخطابي: كتاب السنن لأبي داود كتاب شريف لم يصنّف في الدين كتاب مثله، وقد رزق من الناس القبول كافّة، فصار حكماً بين فرق العلماء وطبقات الفقهاء على اختلاف مذاهبهم، وكتاب السنن أحسن وضعاً وأكثر فقهاً من كتب البخاري ومسلم.
وقال الحافظ أبوالفضل محمّد بن طاهر المقدسي: سمعت الإمام أباالفضل عبدالله بن محمّد الأنصاري بهراة يقول ـ وقد جرى بين يديه ذكر أبي عيسى الترمذي وكتابه فقال ـ : كتابه عندي أنفع من كتاب البخاري ومسلم.
وقال الإمام أبوالقاسم سعد بن علي الزنجاني: إنّ لأبي عبدالرحمن النسائي شرطاً في الرجال أشدّ من شرط البخاري ومسلم.
وقال أبو زرعة الرازي لمّا عرض عليه ابن ماجة السنن كتابه: أظنّ إنْ وقع هذا في أيدي الناس تعطّلت هذه الجوامع كلّها، أو قال أكثرها.
ووراء هذا بحث آخر وهو: إنّ قول الشيخ أبي عمرو ابن الصلاح: إنّ الاُمّة تلقّت الكتابين بالقبول.
إن أراد كلّ الاُمّة، فلا يخفى فساد ذلك، إذ الكتابان إنّما صُنِّفا في المائة الثالثة بعد عصر الصحابة والتابعين وتابعي التابعين وأئمّة المذاهب المتّبعة ورؤوس حفّاظ الأخبار ونقّاد الآثار المتكلّمين في الطرق والرجال المميّزين بين الصحيح والسقيم.
وإن أراد بالاُمّة الذين وجدوا بعد الكتابين، فهم بعض الاُمّة، فلا يستقيم له دليله الذي قرّره من تلقّي الاُمّة وثبوت العصمة لهم، والظاهريّة إنّما يعتنون بإجماع الصحابة خاصّة، والشيعة لا تعتدّ بالكتابين وطعنت فيهما، وقد اختلف في اعتبار قولهم في الإجماع وانعقاده.
ثمّ، إن أراد كلّ حديث فيهما تلقي بالقبول من الناس كافّة، فغير مستقيم، فقد تكلّم جماعة من الحفّاظ في أحاديث فيهما.
فتكلّم الدارقطني في أحاديث وعلّلها.
وتكلّم ابن حزم في أحاديث، كحديث شريك في الإسراء قال: إنّه خلط.
ووقع في الصحيحين أحاديث متعارضة لا يمكن الجمع بينهما، والقطع لا يقع التعارض فيه.
وقد اتفق البخاري ومسلم على إخراج حديث محمّد بن بشّار بندار، وأكثرا من الإحتجاج بحديثه، وتكلّم فيه غير واحد من الحفّاظ وأئمّة الجرح والتعديل ونسب إلى الكذب، وحلف عمرو بن علي الفلاّس شيخ البخاري أنّ بنداراً يكذب في حديثه عن يحيى، وتكلّم فيه أبو موسى، وقال علي بن المديني في الحديث الذي رواه في السجود: هذا كذب، وكان يحيى لا يعبأ به ويستضعفه. وكان القواريري لا يرضاه.
وأكثرا من حديث عبدالرزّاق والإحتجاج به، وتُكُلِّم فيه ونسب إلى الكذب.
وأخرج مسلم لأسباط بن نصر، وتكلّم فيه أبو زرعة وغيره.
وأخرج أيضاً عن سماك بن حرب وأكثر عنه، وتكلّم فيه غير واحد، وقال الإمام أحمد بن حنبل: هو مضطرب الحديث، وضعّفه أميرالمؤمنين في الحديث شعبة وسفيان الثوري، وقال يعقوب بن شيبة: لم يكن من المتثبّتين. وقال النسائي: في حديثه ضعف. قال شعبة: كان سماك يقول في التفسير: عكرمة ولو شئت لقلت له ابن عبّاس لقاله. وقال ابن المبارك: سمّاك ضعيف في الحديث، وضعّفه ابن حزم وقال: كان يُلَقَّن فَيَتَلَقَّنُ.
وكان أبو زرعة يذمّ وضع كتاب مسلم ويقول: كيف تسمّيه الصحيح وفيه فلان وفلان؟ فذكر جماعة.
وأمثال ذلك تستغرق أوراقاً.
فتلك الأحاديث عندهما ولم يتلقّوها بالقبول.
وإن أراد غالب ما فيهما، سلم من ذلك ولم يبق له حجّة».
وقال الشيخ عبدالقادر القرشي:
«فائدة ـ حديث أبي حميد السّاعدي في صفة صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، في مسلم وغيره، يشتمل على أنواع منها: التورّك في الجلسة الثانية، ضعّفه الطحاوي، لمجيئه في بعض الطرق عن رجل، عن أبي حميد، قال الطحاوي: فهذا منقطع على أصل مخالفينا، وهم يردّون الحديث بأقلّ من هذا.
قلت: ولا يحنّق علينا لمجيئه في مسلم، وقد وقع في مسلم أشياء لا تقوى عند الإصطلاح، فقد وضع الحافظ الرّشيد العطّار على الأحاديث المقطوعة المخرّجة في مسلم كتاباً سمّاه بـ«غرر الفوائد المجموعة في بيان ما وقع في مسلم من الأحاديث المقطوعة»، سمعته على شيخنا أبي إسحاق إبراهيم بن محمّد بن عبدالله الطاهري سنة اثنتي عشر وسبعمائة، بسماعه من مصنّفه الحافظ رشيد الدين، بقراءة الشيخ فخرالدين أبي عمرو عثمان المقابلي، وبيّنها الشيخ محي الدين في أوّل شرح مسلم.
وما يقوله الناس: إنّ من روى له الشيخان فقد جاز القنطرة، هذا أيضاً من التحنّق ولا يقوى، فقد روى مسلم في كتابه عن ليث عن أبي مسلم وغيره من الضعفاء، فيقولون: إنّما روى في كتابه للإعتبار والشواهد والمتابعات، وهذا لايقوى، لأنّ الحفّاظ قالوا: الإعتبار والشواهد والمتابعات والاعتبارات، اُمور يتعرّفون بها حال الحديث، وكتاب مسلم التزم فيه الصحّة، فكيف يتعرّف حال الحديث الذي فيه بطريق ضعيفة.
واعلم أنّ «عن» مقتضية للانقطاع عند أهل الحديث، ووقع في مسلم والبخاري من هذا النوع شيء كثير، فيقولون على سبيل التحنّق: ما كان من هذا النوع في غير الصحيحين فمنقطع، وما كان في الصحيحين فمحمول على الإتصال.
وروى مسلم في كتابه، عن أبي الزبير، عن جابر، أحاديث كثيرة بالعنعنة. وقال الحافظ: أبوالزبير محمّد بن مسلم بن مسلم بن تدرس المكّي يدلّس في حديث جابر، فما كان يصفه بالعنعنة لا يقبل، وقد ذكر ابن حزم وعبدالحق عن الليث بن سعد أنّه قال لأبي الزبير: علّم لي أحاديث سمعتها من جابر حتّى أسمعها منك، فعلّم لي أحاديث أظنّ أنّها سبعة عشر حديثاً فسمعتها منه، قال الحافظ: فما كان من طريق الليث عن أبي الزبير عن جابر، صحيح.
وقد روى مسلم في كتابه أيضاً، عن جابر وابن عمر، في حجّة الوداع، أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم توجّه إلى مكّة يوم النحر، وطاف طواف الإفاضة ثمّ رجع فصلّى الظهر بمنى، فيتحنّقون ويقولون: أعادها لبيان الجواز، وغير ذلك من التأويلات، ولهذا قال ابن حزم في هاتين الروايتين: إحداهما كذب بلاشك.
وروى مسلم أيضاً حديث الإسراء وفيه: «وذلك قبل أن يوحى إليه» وقد تكلّم الحفّاظ في هذه اللّفظة وبيّنوا ضعفها.
وروى مسلم أيضاً: «خلق الله التّربة يوم السبت»، واتفق الناس على أنّ يوم السبت لم يقع فيه خلق.
وروى مسلم عن أبي سفيان أنّه قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم لمّا أسلم: «يا رسول الله! أعطني ثلاثاً، تزوّج ابنتي اُم حبيبة، وابني معاوية اجعله كاتباً، وأمّرني أن اُقاتل الكفّار كما قاتلت المسلمين، فأعطاه النبي صلّى الله عليه وسلّم» والحديث معروف مشهور، وفي هذا من الوهم ما لا يخفى، فاُمّ حبيبة تزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهي بالحبشة وأصدقها النجاشي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أربعمائة دينار، وحضر وخطب وأطعم، والقصّة مشهورة، وأبو سفيان إنّما أسلم عام الفتح، وبين الهجرة والحبشة والفتح عدّة سنين، ومعاوية كان كاتباً للنبي صلّى الله عليه وسلّم من قبل، وأمّا إمارة أبي سفيان فقد قال الحافظ: إنّهم لا يعرفونها.
فيجيبون على سبيل التحنّق بأجوبة غير طائلة، فيقولون في نكاح ابنته: اعتقد أنّ نكاحها بغير إذنه لا يجوز وهو حديث عهد بكفر، فأراد من النبي صلّى الله عليه وسلّم تجديد النكاح، ويذكرون عن الزبير بن بكار بأسانيد ضعيفة، أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أمّره في بعض الغزوات، وهذا لا يعرف.
وما حملهم على هذا كلّه إلاّ بعض التعصّب، وقد قال الحافظ: إنّ مسلماً لمّا وضع كتابه الصحيح عرضه على أبي زرعة الرازي فأنكر عليه وقال: سمّيته الصحيح، فجعلت سلّماً لأهل البدع وغيرهم، فإذا روى لهم المخالف حديثاً يقولون هذا ليس في صحيح مسلم. فرحم الله تعالى أبا زرعة فقد نطق بالصواب فقد وقع هذا.
وما ذكرت ذلك كلّه إلاّ أنّه وقع بيني وبين بعض المخالفين بحث في مسألة التورّك، فذكر لي حديث أبي حميد المذكور أوّلاً، فأجبته بتضعيف الطحاوي، فما تلفّظ وقال: مسلم يصحّح والطحاوي يضعّف، والله تعالى يغفر لنا وله، آمين»(2).
ترجمة عبدالقادر القرشي
ترجم له الحافظ السيوطي بقوله: «عبدالقادر بن محمّد بن محمّد بن نصر الله بن سالم، محيي الدين أبو محمّد بن أبي الوفا القرشي، درّس ]وأفتى [وصنّف، شرح معاني الآثار، وطبقات الحنفية، وشرح الخلاصة، وتخريج أحاديث الهداية، وغير ذلك. ولد سنة ست وسبعين وستمائة، ومات في ربيع الأوّل سنة خمس وسبعين وسبعمائة»(3).
وقال محمود بن سليمان الكفوي بترجمته: «المولى الفاضل والنحرير الكامل عبدالقادر، كان عالماً فاضلاً، جامعاً للعلوم، له مجموعات وتصانيف وتواريخ ومحاضرات وتواليف…»(4).
(1) منهاج السنّة 7: 215 وانظر 5: 101.
(2) الجواهر المضية في طبقات الحنفية 2: 428 ـ 430.
(3) حسن المحاضرة في محاسن مصر والقاهرة 1: 471.
(4) كتائب أعلام الأخيار من فقهاء مذهب النعمان المختار للكفوي ـ مخطوط ـ وله ترجمة في الدرر الكامنة 2: 392 وشذرات الذهب 6: 238، وتاج التراجم: 28، وغيرها أيضاً.