محاولة الجمع
وقد تكلّف بعض أكابر القوم الجمع بين إثبات ابن عبّاس ـ حسبما يروون ـ وبين إنكار عائشة، كقول القسطلاني تبعاً لابن حجر:
«وعلى هذا، فيمكن الجمع بين إثبات ابن عبّاس، ونفي عائشة، بأن يحمل نفيها على رؤية البصر وإثباته على رؤية القلب»(1).
ولا يخفى بطلانه، لأنّ في حديث الترمذي عن عكرمة أنّه اعترض على ابن عبّاس قوله بالمنافاة لقوله تعالى: (لا تدركهُ الأبصار)، فلو كان ابن عبّاس يريد الرؤية بالقلب لأجابه بذلك، لا بما جاء في الحديث، لأنّ رؤية القلب لا تختصّ بوقت دون وقت.
على أنّ هناك حديثاً صريحاً في إرادته الرؤية بالبصر، ولأجله استدرك القسطلاني الكلام قائلاً:
«لكنْ روى الطبراني في الأوسط بإسناد رجاله رجال الصحيح خلا جهور بن منصور الكوفي ـ وجهور بن منصور قد ذكره ابن حبّان في الثقات ـ عن ابن عبّاس أنّه كان يقول: إنّ محمّداً صلّى الله عليه وسلّم رأى ربّه مرّتين، مرّة ببصره ومرّة بفؤاده»(2).
وذكر أيضاً: «جنح ابن خزيمة في كتاب التوحيد إلى ترجيح الإثبات، وأطنب في الاستدلال بما يطول ذكره، وحمل ما ورد عن ابن عبّاس على أنّ الرؤية وقعت مرّتين مرّةً بقلبه ومرّةً بعينه»(3).
وكذلك محمّد بن يوسف الشامي، فإنّه ذكر الجمع المزبور في الثالث من التنبيهات، ثمّ عدل عنه في الخامس منها حيث قال:
«قال ابن كثير: من روى عن ابن عبّاس أنّه رآه ببصره، فقد أغرب، فإنّه لا يصحّ في ذلك شيء عن الصحابة، وقول البغوي: وذهب جماعة إلى أنّه رآه بعينه ـ وهو قول أنس والحسن وعكرمة ـ فيه نظر.
قلت: سبق البغوي إلى ذلك الإمام أبوالحسن الواحدي. وقول ابن كثير: إنّه لا يصحّ في ذلك شيء عن الصحابة، ليس بجيّد، فقد روى الطبراني بسند صحيح عن ابن عبّاس أنّه كان يقول: نظر محمّد إلى ربّه مرّتين، مرّةً ببصره ومرّةً بفؤاده»(4).
وتلخص: إنّ الجمع المذكور ساقط، والأحاديث على خلافه.
وممّا يشهد بسقوطه: كلام الزهري، فإنّه ردّ على عائشة إنكارها على ابن عبّاس، كما في (عيون الأثر) قال:
«وفي تفسير عبدالرزاق: عن معمر، عن الزهري، وذكر إنكار عائشة أنّه رآه فقال الزهري: ليست عائشة أعلم عندنا من ابن عبّاس. وفي تفسير ابن سلام عن عروة أنّه كان إذا ذكر إنكار عائشة يشتدّ ذلك عليه»(5).
فلو كان للجمع المذكور أو غيره وجه لما اتّخذ الزهري هذا الموقف.
هذا، على أنّه لا فرق بين رؤية القلب ورؤية البصر، إذ ليس المراد من «رؤية القلب» هو «العلم بالله»، لأنّ هذا يحصل في كلّ وقت، وليس له وقت مخصوص، بل المراد هو حصول خلق له في قلبه كما تخلق الرؤية بالعين، وهذا ما نصّ عليه الشهاب القسطلاني حيث قال:
«ثمّ إنّ المراد برؤية الفؤاد رؤية القلب، لا مجرّد حصول العلم، لأنّه كان عالماً بالله على الدوام، بل مراد من أثبت له أنّه رآه بقلبه أنّ الرؤية التي حصلت له خلقت له في قلبه كما تخلق الرؤية بالعين لغيره، والرؤية لا يشترط لها شيء مخصوص عقلاً، ولو جرت العادة بخلقها في العين»(6).
ومحمّد بن يوسف الشامي قال:
«قال الحافظ: المراد برؤية الفؤاد رؤية القلب لا مجرّد حصول العلم، لأنّه صلّى الله عليه وسلّم كان عالماً بالله تعالى على الدوام، بل مراد من أثبت له أنّه رآه بقلبه: إنّ الرؤية التي حصلت له خلقت في قلبه كما تخلق الرؤية بالعين لغيره.
وزاد صاحب السراج: بخلاف غيره من الأولياء، فإنّهم إذا أطلقوا الرؤية والمشاهدة لأنفسهم، فإنّهم إنّما يريدون المعرفة، فاعلمه فإنّه من الاُمور المهمّة التي يغلط فيها كثير من الناس. إنتهى.
والرؤية لا يشترط لها شيء مخصوص عقلاً، ولو جرت العادة بخلقها في العين. قال الواحدي: وعلى القول بأنّه رأى بقلبه جعل الله تعالى بصره في فؤاده، أو خلق لفؤاده بصراً حتّى رأى ربّه رؤية صحيحةً كما يرى بالعين»(7).
والحاصل: إنّه لا يبقى ـ على هذا ـ فرق بين رؤية القلب ورؤية البصر، وبأيّ وجه تكون دعوى الرؤية بالبصر فرية عظيمةً، كذلك دعوى الرؤية بالقلب.
(1) المواهب اللدنيّة بالمنح المحمّديّة 2: 393.
(2) المواهب اللدنيّة بالمنح المحمّديّة 2: 393.
(3) المواهب اللدنيّة بالمنح المحمّديّة 2: 393.
(4) سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد 3: 63.
(5) عيون الأثر في المغازي والسير 1: 250 ـ 251.
(6) المواهب اللدنيّة بالمنح المحمّديّة 2: 393.
(7) سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد 3: 63.