محاولة التأويل
ولشدّة قبح ما كان بين ابن الزبير وعائشة، وأنّه يستوجب الطعن في كليهما أو أحدهما في الأقل، وهو ما لا يتحمَّل… حاول بعضهم تأويل الخبر، ففي (الكواكب الدراري) بشرحه:
«قال ابن بطّال: فإنْ قلت: لِمَ هجرت عائشة ابن الزبير أكثر من ثلاثة أيّام؟
قلت: معنى الهجرة ترك الكلام عند التلاقي، وعائشة رضي الله عنها لم تكن تلقاه فتعرض عن السلام عليه، وإنّما كانت من وراء الحجاب، ولا يدخل عليها أحد إلاّ بالإذن، فلم يكن ذلك من الهجرة، ويدلّ عليه لفظ «يلتقيان فيعرض» إذ لم يكن بينهما لقاء فإعراض.
ووجه آخر، وهو: إنّه إنّما ساغ لعائشة ذلك لأنّها اُم المؤمنين، لاسيّما بالنسبة إلى ابن الزبير، لأنّها خالته، وذلك الكلام الذي قال في حقّها كان كالعقوق لها، فهجرتها منه كانت تأديباً له، وهذامن باب إباحة الهجران لمن عصى»(1).
لكنْ لا يخفى وهن التوجيه الأوّل وسخافته، وتفوّه هذا العالم النحرير به عجيب، ولكن العصبيّة والمراء عضال داء ليس له دواء، وذلك، لأنّ الهجران ترك الملاقاة، وقد خصّه ابن بطال بترك السلام عند الملاقاة، وهذا تأويل عليل وليس عليه دليل، وكلمة «يلتقيان فيعرض» لا دلالة فيها عليه، لأنّها تفريع على الهجران وليست نفس الهجران، لأنّ اللفظ في (البخاري) هكذا: «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: لا يحلّ لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال فيلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام»(2).
فالصحيح هو الوجه الثاني فقط.
بل إنّ ألفاظ الخبر عند البخاري شاهدة على بطلان التأويل الأوّل، فقد جاء فيه، في قضيّة شفاعة المسور وعبدالرحمن لابن الزبير عند عائشة: «وطفق المسور وعبدالرحمن يناشدانها إلاّ ما كلّمته وقبلت منه، ويقولان: إنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عمّا قد علمت من الهجرة، فإنّه لا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، فلمّا أكثرا على عائشة من التذكرة والتحريج، طفقت تذكرهما وتبكي وتقول: إنّي نذرت والنذر شديد، فلم يزالا بها حتّى كلّمت ابن الزبير»(3).
فلو لم تكن بينهما هجرة لم يكن لهذه التفاصيل معنى.
(1) الكواكب الدراري في شرح البخاري 21: 208، شرح صحيح البخاري لابن بطّال 9: 270.
(2) صحيح البخاري 8: 26 كتاب الأدب ـ باب الهجرة.
(3) صحيح البخاري 8: 25 كتاب الأدب ـ باب الهجرة.