كلام أبي برزة في ابن الزبير
قال الحاكم في (المستدرك):
«أخبرني الحسن بن حكيم المروزي، ثنا أبوالموجة، أنبأ عبدان، أنبأ عبدالله، أنبأ عوف، عن أبي المنهال، عن أبي برزة الأسلمي رضي الله تعالى عنه قال: إنّ ذلك الذي بالشام ـ يعني مروان ـ والله إنْ يقاتل إلاّ على الدنيا، وإنّ ذلك الذي بمكّة ـ يعني ابن الزبير ـ والله إنْ يقاتل إلاّ على الدنيا، وإنّ الذين تدعونهم قرّاءكم والله إنْ يقاتلون إلاّ على الدنيا. فقال له أبي: فما تأمرنا إذاً؟ قال: لا أرى خير النّاس إلاّ… خماص البطون من أموال الناس، خفاف الظهور من دماءهم»(1).
وأبو برزة الأسلمي من الصحابة الذين يذكرونهم بالجهاد وبالورع والديانة، قال ابن حجر بترجمته في (الإصابة):
«قال أبو عمرو: كان إسلامه قديماً، وشهد فتح خيبر وفتح مكّة وحنيناً… وقال ابن سعد: كان من ساكني المدينة ثمّ نزل البصرة وغزا خراسان. وقال غيره: شهد مع علي قتال الخوارج بالنهروان وغزا خراسان بعد ذلك، ويقال: إنّه شهد صفّين والنهروان مع علي. روي ذلك من طريق ثعلبة بن أبي برزة عن أبيه».
وذكر ابن حجر كلام أبي برزة في ابن الزبير وغيره عن البخاري قال:
«وقد أخرج البخاري في صحيحه: إنّه عاب على مروان وابن الزبير والقرّاء بالبصرة، لمّا وقع الإختلاف بعد موت يزيد بن معاوية فقال في قصّة ذكرها حاصلها: إنّ الجميع إنّما يقاتلون على الدنيا»(2).
وهذا نصّ الخبر في (صحيح البخاري):
«حدّثنا أحمد بن يونس قال: حدّثنا أبو شهاب، عن عوف، عن أبي المنهال قال: لمّا كان ابن زياد و مروان بالشام، ووثب ابن الزبير بمكّة، ووثب القرّاء بالبصرة، فانطلقت مع أبي إلى أبي برزة الأسلمي، حتّى دخلنا عليه في داره وهو جالس في ظلّ عُليّة له من قصب، فجلسنا إليه، فأنشأ أبي يستطعمه بالحديث، فقال: يا أبا برزة، ألا ترى ما وقع فيه الناس، فأوّل شيء سمعته تكلّم به: إنّي احتسبت عند الله أنّي أصبحت ساخطاً على أحياء قريش، إنّكم ـ يا معشر العرب ـ كنتم على الحال الذي علمتم من الذلّة والقلّة والضلالة، وإنّ الله أنقذكم بالإسلام وبمحمّد صلّى الله عليه وسلّم، حتّى بلغ بكم ما ترون، وهذه الدنيا التي أفسدت بينكم، إنّ ذاك الذي بالشام ـ والله ـ إنْ يقاتل إلاّ على الدنيا، وإنّ ذاك الذي بمكّة ـ والله ـ إنْ يقاتل إلاّ على الدنيا، وإنّ هؤلاء الذين بين أظهركم ـ والله ـ إنْ يقاتلون إلاّ على الدنيا»(3).
وفي (فتح الباري) لابن حجر العسقلاني:
«قوله: إنّ ذاك الذي بالشام، زاد يزيد بن زريع: يعني مروان. وفي رواية سكين: عبدالملك بن مروان، والأوّل أولى.
قوله: وإنّ ذاك الذي بمكّة. زاد يزيد بن زريع: يعني ابن الزبير.
قوله: وإنّ هؤلاء الذين بين أظهركم، في رواية يزيد بن زريع وابن المبارك نحوه: إنّ الذين حولكم الذين تزعمون أنّهم قرّاؤكم، وفي رواية سكين وذكر نافع ابن الأزرق وزاد في آخره: فقال أبي: فما تأمرني إذاً، فإنّي لا أراك تركت أحداً؟ قال: لا أرى خير الناس اليوم إلاّ عصابة خماص البطون من أموال الناس، خفاف الظهور من دمائهم»(4).
وفي هذا الحديث دلالة على القدح والذمّ لابن الزبير من وجوه:
1 ـ قوله: «إنّي احتسبت عند الله» يدلّ على شدّة قبح أفعال ابن الزبير، بحيث كانت سبباً لسخط أبي برزة وغضبه عليه، وأنّه كان يطلب بذلك الأجر من الله تعالى… قال ابن حجر بشرحه: «قوله: إنّي احتسبت عند الله، في رواية الكشميهني: أحتسب، وكذا في رواية يزيد بن زريع. ومعناه: إنّه يطلب بسخطه على الطوائف المذكورين من الله الأجر على ذلك، لأنّ الحبّ في الله والبغض في الله من الإيمان»(5).
وعليه، فإنّ بغض ابن الزبير من الإيمان، وموالاته توجب الخروج عنه، لكون الغضب عليه موجباً للأجر والثواب، وكذلك بيّن ابن الملقّن الكلمة المذكورة في (شرح البخاري) فقال: «وأمّا قول أبي برزة واحتسابه سخطه على أحياء قريش عند الله تعالى، فكأنّه قال: اللّهمّ لا أرضى ما صنع قريش من التقاتل على الخلافة فاعلم ذلك من نيّتي، وأنّي أسخط أفعالهم واستباحتهم للدماء والأموال، فأراد أنْ يحتسب ما يعتقده من إنكار القتال في الإسلام عند الله أجراً وذخراً، فإنّه لم يقدر من التغيير عليهم إلاّ بالقول والنيّة التي بها يؤجر الله عباده».
2 ـ قوله: «وإنّكم يا معشر العرب…» ظاهر في أنّ ما صنعه ابن الزبير كان محض الضّلال…
3 ـ قوله: «والله إنْ يقاتل إلاّ على الدنيا» نصٌّ لا يقبل أيّ تأويل أو حمل.
ومن الواضح أنّ التقاتل على الدنيا من أقبح الفواحش وأفظع المثالب.
وقد ذكر المؤرّخون أنّ اُمّه قالت له: «إن كنت إنّما أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك ومن قتل معك».
قال ابن فهد في (إتحاف الورى):
«فدخل ـ أي ابن الزبير ـ على اُمّه أسماء بنت أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه فقال: يا اُمّاه، قد خذلني الناس حتّى ولدي وأهل بيتي، ولم يبق معي إلاّ اليسير ومن ليس عنده أكثر من صبر ساعة، وإنّ خصومي قالوا لي إن شئت سلّم نفسك لعبدالملك بن مروان، يرى فيك رأيه ولك الأمان، فما رأيك؟
فقالت له: يا ولدي! أنت أعلم بنفسك، إن كنت قاتلت لغير الله، فقد هلكت وأهلكت، وإن كنت قاتلت لله وتعلم أنّك على حقّ وإليه تدعو، فامض له، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكّن من رقبتك يتلعّب بها غلمان بني اُميّة، وإن كنت إنّما أردت الدنيا، فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك ومن قتل معك، وإن قلت: كنت على حقّ فلمّا وهن أصحابي ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين، كم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن، وإن قلت: لم يبق معي معين على القتل، فلعمري إنّك مغدور، ولكن شأن الكرام أن يموتوا على ما عاشوا عليه.
فقال: يا اُمّاه! أخاف إن قتلني أهل الشام أن يمثّلوا بي ويصلّبوني.
فقالت: أي بني، إنّ الشاة لا تبالي بالسلخ، فامض على بصيرتك واستعن بالله تعالى.
فقبّل رأسها وقال: هذا رأيي».
4 ـ قوله: «لا أرى خير الناس اليوم…» مفهومه أنّ ابن الزبير وأمثاله قد ملأوا بطونهم من أموال الناس، وباؤوا بغضب من الله ومأواهم جهنّم وبئس المصير.
(1) المستدرك على الصحيحين 4: 470 كتاب الفتن والملاحم.
(2) الإصابة في معرفة الصحابة 6: 237 ـ 238/8710.
(3) صحيح البخاري 9: 72 كتاب الفتن ـ باب إذا قال عند قوم شيئاً ثمّ خرج فقال بخلافه.
(4) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 13: 62.
(5) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 13: 62.