كلامٌ لابن طلحة الشافعي
وهكذا يبطل الإعتذار لأهل الجمل بوجه من الوجوه، بما ذكره الفقيه محمّد بن طلحة الشّافعي، في هذا المقام، وهذا نصّ كلامه بطوله ضمن بيان وقائع شجاعة أميرالمؤمنين عليه السلام:
«فمنها: وقعة الجمل، فإنّ المجتمعين لها رفضوا عليّاً عليه السلام ونقضوا بيعته ونكثوا عهده وغدروا به، وخرجوا عليه، وجمعوا النّاس لقتاله، مستخفّين بعقد بيعته التي لزمهم فرض حكمها، مسفّين إلى إثارة فتنة عامّة باؤوا بإثمها، لم ير إلاّ مقاتلتهم على إسراع نكثهم لبيعته، ومقابلتهم على الإقلاع عن مكثهم على الوفاء لله تعالى بطاعته.
وكان من الدّاخلين في البيعة أوّلاً، الملتزمين بها، ثمّ من المحرّضين ثانياً على نكثها ونقضها، طلحة والزبير، فأخرجا عائشة وجمعها ممّن استجاب لهما، وخرجوا إلى البصرة، ونصبوا لعليّ حبائل الغوائل وألّبوا عليه مطيعيهم، من الرامح والنابل، مظهرين المطالبة بدم عثمان رضي الله عنه، مع علمهما في الباطن أنّ عليّاً ليس بالقاتل، فلمّا رحل من المدينة طالباً إلى البصرة وقرب منها، كتب إلى طلحة والزبير يقول:
أمّا بعد; فقد علمتما أنّي لم أرد النّاس حتّى أرادوني، ولم اُبايعهم حتّى أكرهوني، وأنتما ممّن أرادوا بيعتي وبايعوا، ولم تبايعا لسلطان غالب ولا لغرض حاضر، فإن كنتما بايعتما طائعين، فتوبا إلى الله عزّ وجلّ عمّا أنتما عليه، وإن كنتما بايعتما مكرهين فقد جعلتما السبيل عليكما بإظهاركما الطاعة وكتمانكما المعصية. وأنت ـ يا زبير ـ فارس قريش، وأنت ـ يا طلحة ـ شيخ المهاجرين، ودفعكما هذا الأمر قبل أن تدخلا فيه كان أوسع لكما من خروجكما منه بعد إقراركما به. وأمّا قولكما إنّني قتلت عثمان بن عفّان، فبيني وبينكما من تخلف عنّي وعنكما من أهل المدينة، ثمّ يلزم كلّ امرئ بقدر ما احتمل، وهؤلاء بنوعثمان ـ إن قُتل مظلوماً كما تقولان ـ أولياؤه، وأنتما رجلان من المهاجرين، وقد بايعتماني ونقضتما بيعتي، وأخرجتما اُمّكما من بيتها الذي أمرها الله عزّوجلّ أن تقرّ فيه، والله حسبكما، والسّلام.
وكتب إلى عائشة:
أمّا بعد، فإنّك خرجت من بيتك عاصية لله تعالى ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم، تطلبين أمراً كان عنك موضوعاً، ثمّ تزعمين أنّك تريدين الإصلاح بين الناس، فخبّريني ما للنساء وقود العساكر؟ وزعمت أنّك طالبة بدم عثمان، وعثمان رجل من بني اُميّة، وأنت امرأة من بني تيم بن مرّة، ولعمري، إنّ الذي عرّضك للبلاء وحملك على المعصية لأعظم إليك ذنباً من قتلة عثمان، وما غضبت حتّى أغضبت، ولا هجت حتّى هيّجت، فاتقي الله يا عائشة، وارجعي إلى منزلك، واسبلي عليك سترك، والسّلام.
فجاء الجواب إليه:
يا ابن أبي طالب، جلّ الأمر عن العتاب، ولن ندخل في طاعتك، فاقض ما أنت قاض، والسّلام.
ثمّ تراءى الجمعان، وقرب كلّ من الآخر، ورأى علي عليه السلام تصميم عزم أولئك على قتاله، فجمع أصحابه ولم يترك منهم أحداً، وخطبهم خطبة بليغة منها:
واعلموا أيّها النّاس، أنّي قد تأنّيت هؤلاء القوم وراقبتهم وناشدتهم، كيما يرجعوا ويرتدعوا، فلم يفعلوا ولم يستجيبوا، وقد بعثوا إليّ أن أثبت للجلاد وأبرز للطعان، وقد كنت وما اُهدّد بالحرب ولا أدعى إليها، وقد أنصف القارّة من راماها، ولعمري، لئن أبرقوا وأرعدوا ورأوا نكايتي، فأنا أبوالحسن الذي فللت حدّهم وفرّقت جماعتهم، فبذلك القلب ألقى عدوّي وأنا على بيّنة من ربّي لما وعدني من النصر والظفر، وإنّي لعلى غير شبهة من أمري، ألا، وإنّ الموت لا يفوته المقيم ولا يعجزه الهارب، ومن لم يقتل يمت، وإنّ أفضل الموت القتل، والذي نفس عليّ بيده لألف ضربة بالسيف أهون علَيّ من ميتة على الفراش.
ثمّ رفع يده إلى السّماء وهو يقول:
اللّهمّ، إنّ طلحة بن عبيدالله أعطاني صفقة يمينه طائعاً ثمّ نكث بيعتي، اللّهمّ فعاجله ولا تمهله، اللّهمّ وإنّ الزبير بن العوام قطع قرابتي، ونكث عهدي، وظاهر عدوّي، ونصب الحرب لي وهو يعلم أنّه ظالم، اللّهمّ فاكفنيه كيف شئت وأنّى شئت.
ثمّ تقارب النّاس للقتال، وتعبّؤوا متسلّحين لابسين دروعهم، متأهّبين لذلك، هذا كلّه، وعليٌّ بين الصفّين عليه قميص ورداء، وعلى رأسه عمامة سوداء، وهو راكب على بغلة رسول الله الشهباء، فلمّا رأى أنّه لم يبق إلاّ التصافح بالصّفاح والتناطح بالرماح، صاح بأعلى صوته: أين الزبير بن العوام، فليخرج إليّ؟
فقال النّاس: يا أميرالمؤمنين! أتخرج إلى الزبير وأنت حاسر، وهو مدجّج في الحديد؟!
فقال عليٌّ: ليس علَيّ منه بأس.
ثمّ نادى الثانية: أين الزبير بن العوّام، فليخرج إليّ.
فخرج إليه الزبير جوقال: يا علي، أنا آمن من سيفك؟
فقال عليٌّ: أنت آمنج.
فدنا منه حتّى واقفه، فقال له عليٌّ: يا أباعبدالله! ما حملك على ما صنعت؟
فقال الزبير: حملني على ذلك الطلب بدم عثمان.
فقال له علي: أنت وأصحابك قتلتموه، فيجب عليك أن تقيد من نفسك.
ولكن اُنشدك الله الذي لا إله إلاّ هو، الذي أنزل الفرقان على نبيّه محمّد صلّى الله عليه وسلّم، أما تذكر يوم قال لك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا زبير أتحبُّ عليّاً؟ قلت: وما يمنعني من حبّه وهو ابن خالي. فقال لك: أمّا أنت فستخرج عليه يوماً وأنت ظالم له؟
فقال الزبير: اللّهمّ بلى قد كان ذلك.
فقال عليٌّ: فاُنشدك بالله الذي أنزل الفرقان على نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، أما تذكر يوم جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من عند ابن عوف وأنت معه وهو آخذ بيدك، فاستقبلته أنا فسلّمت عليه، فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في وجهي وضحكت أنا إليه، فقلت أنت: لا يدع ابن أبي طالب زهوه أبداً، فقال لك النبي صلّى الله عليه وسلّم: مهلاً يا زبير، فليس به زهو، ولتخرجنّ عليه يوماً وأنت ظالم له.
فقال الزبير: اللّهمّ بلى، ولكن أنسيت، فأمّا إذ ذكّرتني ذلك لأنصرفنّ عنك، ولو ذكرت هذا لما خرجت عليك.
ثمّ رجع الزبير إلى عائشة فقالت: ما ورائك يا أباعبدالله؟
فقال الزبير: جواللهج ورائي أنّني ما وقفت موقفاً قطّ، ولا شهدت مشهداً في شرك ولا إسلام إلاّ ولي فيه بصيرة، وإنّي اليوم لعلى شكّ من أمري، وما أكاد أبصر موضع قدمي.
ثمّ شقّ الصفوف وخرج من بينهم، فنزل على قوم من بني تميم، فقام إليه عمرو بن جرموز المجاشعي وضيّفه، فلمّا نام قام إليه، فقتله، فنفذت دعوة علي فيه في عاجلته.
وأمّا طلحة، فجاءه سهم ـ وهو قائم للقتال ـ من مروان، فقتله.
ثمّ التحم القتال، واتّصلت الحرب وكثر القتل والجرح، ثمّ تقدّم رجل من أصحاب الجمل يقال له عبدالله، فجعل يجول بين الصفوف وهو يقول: أين أبوالحسن؟ ويرتجز، فخرج إليه عليٌّ عليه السلام، وشدّ عليه بالسيف وضربه ضربة أسقط بها عاتقه، فسقط قتيلاً، فوقف عليه عليٌّ وقال: قد رأيت أبا الحسن فكيف وجدته؟ ثمّ لم يزل القتل يؤجّج ناره والجمل يفنى أنصاره، حتّى خرج رجل مدجّج في السلاح، يظهر بأساً ويروم مراساً، ويعرّض بعليٍّ عليه السلام حتّى قال:
أضربكم ولو أرى عليّاً *** عمّمته أبيض مشرفيّا
فخرج إليه عليٌّ عليه السلام متنكّراً وحمل عليه، فضربه ضربة على وجهه، فرمى بنصف قحف رأسه، ثمّ انصرف.
فسمع صائحاً من ورائه، فالتفت فرأى ابن خلف الخزاعي من أصحاب الجمل، فقال: هل لك يا علي في المبارزة؟ فقال علي: ما أكره ذلك، ولكن ويحك يا ابن خلف، ما راحتك في القتل وقد علمت من أنا؟ فقال له ابن خلف: ذرني يا ابن أبي طالب من مدحك نفسك، وادن منّي لترى أيّنا يقتل صاحبه، فثنى عليٌّ عنان فرسه إليه، فبدره ابن خلف بضربة فأخذها عليٌّ في جحظته، ثمّ عطف عليه بضربة أطار بها يمينه، ثمّ ثنّى باُخرى أطار بها قحف رأسه.
ثمّ استعرت الحرب حتّى عقر الجمل فسقط، وقد احمرّت البيداء بالدماء وخذل الجمل وحزبه، وقامت النوادب بالبصرة على القتلى، وكان عدّة من قُتل من جند الجمل ستّة عشر ألفاً وسبعمائة وتسعين إنساناً، وكان جملتهم ثلاثين ألفاً، فأتى القتل على أكثر من نصفهم، وقُتِل من أصحاب عليِّ ألف رجل وسبعون رجلاً، وكان عدّتهم عشرين ألفاً، وفي مقابلة عليٍّ عليه السلام ثلاثين ألفاً بعشرين ومقاتلتهم، حتّى يقتل منهم أكثر من نصفهم ولم يقتل من أصحابه غير عشرهم، حجّة واضحة تشهد بشجاعته وتسجل بشهامته.
وإذا تأمّل الناظر البصير، ونظر المتأمّل الخبير فيما صدر من عليٍّ من أقواله وأفعاله، علم علماً لا يرتاب فيه: أنّه عليه السلام يخوض لجج الحروب، وينغمس في غمرات الموت، ويصادم ظباء الصوارم، ويغمد مصلت سيفه في لباب الكماة ونحور الأبطال، ولا يحمل لذلك عبأً ولا يبالي به.
ولمّا انقضت وقعة الجمل، وندمت عائشة على ما كان، ورحلت إلى المدينة وسكنت النائرة، ورحل عليّ إلى الكوفة، قام إليه أبو بردة بن عوف الأزدي فقال: يا أميرالمؤمنين أرأيت القتلى الذين قتلوا حول الجمل، بماذا قتلوا؟
فقال علي: قتلوا بما قتلوا من شيعتي وعمّالي بلا ذنب كان منهم إليهم، ثمّ صرت إليهم وأمرتهم أن يدفعوا إليّ قتلة أصحابي، فأبوا علَيّ وقاتلوني، وفي أعناقهم بيعتي ودماء قريب من ألف رجل من أصحابي من المسلمين، أفي شكّ أنت من ذلك يا أخا الأزد؟
فقال: الآن استبان لي خطاؤهم وأنّك أنت المحقّ المصيب»(1).
والنقاط المستفادة من هذا الكلام:
1 ـ قوله: «فإنّ المجتمعين» ظاهر الدلالة في أنّ أصحاب الجمل قد رفضوا اتّباع الإمام عليه السلام ونكثوا العهد ونقضوا البيعة معه وغدروه.
2 ـ كتابه عليه السلام، إلى طلحة والزبير، فيه دلالة على أنّ طاعته كانت واجبةً في أعناق القوم.
3 ـ إنّهما كانا يتّهمان عليّاً عليه السلام بقتل عثمان… وهذا كذب عليه.
4 ـ قول الإمام: «وهؤلاء بنوا عثمان…» يفيد أوّلاً: أنّ الإمام كان لا يرى عثمان مظلوماً، وأن طلحة والزبير وأمثالهما ليس لهم أن يطلبوا بدم عثمان ثانياً.
5 ـ إنّه قد أنّب الرجلين على إخراجهما عائشة من بيتها، لأنّه مناف لما أمر به الله ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
6 ـ وقد دعا عليهما بقوله: «الله حسبكما» وحسبهما دعاء الإمام عليهما.
7 ـ وكذا في كتابه إلى عائشة، فقد دلّ على أنّ خروجها من بيتها كان معصيةً لله ورسوله، وأنّه لا مجوّز له أصلاً، ولا وجه لطلبها بدم عثمان أبداً.
8 ـ وقد ذكر أنّ ذنب المخرجين لها من بيتها أكبر من ذنب قتل عثمان، وإذا كان قتلة عثمان كفرة ـ كما في (التحفة الإثنى عشريّة) وغيرها ـ فالمخرجون لها كفّار بالأولويّة.
9 ـ وأشار بقوله: «وما غضبت حتّى أغضبت…» إلى أنّها قد أغضبت بفعلها رسول الله، ومن أغضب رسول الله فقد أغضب الله، كما في الحديث الشريف عنه صلّى الله عليه وآله عند الفريقين.
10 ـ وقوله: «فاتّقي الله يا عائشة» ظاهر في ارتكابها أمراً محرّماً ومعصية واضحة.
11 ـ وقوله لها: «وارجعي إلى منزلك…» دليل صريحٌ على أنّها هاتكة لسترها.
12 ـ وما كتبته إلى الإمام عليه السلام خروجٌ عن حكم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بوجوب إطاعة أميرالمؤمنين والكون معه، بالأحاديث الصحيحة الثابتة المتّفق عليها، من حديث الثقلين وغيره… فتكون بمخالفتها لذلك من الضالّين الهالكين…
13 ـ وصريح كلام ابن طلحة أنّ أهل الجمل جاءوا مصمّمين على قتال الإمام ومحاربته، فبطل ما تفوّه به صاحب (التحفة) وغيره من أنّه لم يقصد الطرفان تسعير نار هذه الحرب.
14 ـ والإمام عليه السلام خطب القوم ووعظهم، لعلّهم يرجعون عن ضلالتهم ويقلعون من كفرهم وعنادهم… لكنّهم تمادوا في غيّهم، وأصرّوا على باطلهم، فدعا الإمام عليه السلام على طلحة والزبير، وكان دعاؤه عند الله مستجاباً، فأعقبهما في الدنيا خسراناً وفي الآخرة عذاباً.
15 ـ وقد تبيّن ممّا دار بين الإمام والزبير بن العوام، أنّ الزّبير كان يتعلّل بالطلب بدم عثمان، ويتذرّع بذلك كاذباً، إذ ذكّره عليه السلام بكلام رسول الله، ولم يجد مناصاً من الإذعان والرجوع… وبعد هذا التنبّه يأتي هذا السؤال: هل أعلم عائشة وسائر أهل الجمل بما نبّهه الإمام عليه السلام به أو لا؟ فإن كان قد أعلمهم بذلك فلم ينفعهم النصح، كان ذلك دليلاً آخر على كفرهم، لمحاربتهم الإمام مع العلم بكونهم ظالمين له، وإنْ لم يكن أعلمهم بالحق الذي ذكّره الإمام به، كان من الكاتمين للحقّ الُمخفين له.
(1) مطالب السئول في مناقب آل الرسول: 154 ـ 159.