قصّة التحكيم
وذاك موقف آخر من مواقف بغضه وعناده لأميرالمؤمنين عليه السلام وتخلّفه عن الحق وسقوطه في دركات الجحيم:
روى سبط ابن الجوزي في قضيّة التحكيم:
«فقال عمرو ـ يعني لأبي موسى ـ: قد أردتك أن تبايع معاوية فأبيت، فهلمّ بنا نخلع عليّاً ومعاوية، ونجعل الأمر شورى يختار المسلمون من شاؤوا. وقيل: إنّ الذي ابتدأ بذلك أبو موسى، فقال عمرو: نعم ما رأيت، فأخبر النّاس إنّا قد اتفقنا على أمر فيه صلاح هذه الاُمّة. ثمّ قال: يا أبا موسى، قم فتكلّم. فقال أبو موسى: قم أنت. فقال: أنت صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا يسعني الكلام قبلك. فقال عبدالله بن عبّاس: ويحك يا عبدالله بن قيس، والله إنّي لأظنّ ابن النابغة قد خدعك ـ وكان أبو موسى رجلاً مغفّلاً ـ فقال: إنّا قد اتفقنا، فقال: أيّها النّاس إنّا نظرنا في هذا الأمر، فلم نر أصلح للاُمّة من خلع عليّ ومعاوية، ونستقبل الاُمّة بهذا الأمر فيولّوا عليهم من أحبّوا، وإنّي قد خلعتهما، ثمّ تنحّى»(1).
وفي (مفتاح النجا):
«واتفق الحكمان على أن يخلعا عليّاً، ويختارا للمسلمين خليفة رضوا به، وتفرّق النّاس على هذا»(2).
وقال اليافعي في (مرآة الجنان) في وقائع سنة سبع وثلاثين:
«روي أنّه اجتمع في رمضان أبو موسى الأشعري ومن معه من الوجوه وعمرو بن العاص ومن معه كذلك بدومة الجندل للتحكيم، فخلا عمرو بأبي موسى وخدعه وقال له: تكلّم قبلي، فأنت أفضل وأكبر سنّاً منّي، وأرى أن تخلع عليّاً ومعاوية، ويختار المسلمون لهم رجلاً يجتمعون عليه، فوافقه على هذا ولم يشعر بخدعه، فلمّا خرجا وتكلّم أبو موسى وحكم بخلعهما، قام عمرو بن العاص وقال: أمّا بعد; فإنّ أبا موسى قد خلع عليّاً كما سمعتم، وقد وافقته على خلعه، وولّيت معاوية. وقيل: إنّهما اتفقا على أن يصعد أبو موسى على المنبر وينادي: يا معشر المسلمين، اشهدوا عليَّ أنّي قد خلعت عليّاً من الخلافة كما خلعت خاتمي هذا، ففعل ذلك، وأخرج خاتمه من أصبعه ورمى به إليهم»(3).
وقال عبدالله بن مسلم بن قتيبة في كتاب (الإمامة والسياسة):
«ثمّ إنّ عمراً غدا على أبي موسى بالغد وجماعة الشهود فقال: يا أبا موسى، ناشدتك الله تعالى من أحقّ بهذا الأمر، من وفى أو من غدر؟
قال أبو موسى: من وفى.
قال: ناشدتك بالله، ما تقول في عثمان؟
قال أبو موسى: قتل جعثمانج مظلوماً.
قال عمرو: فما الحكم فيمن قتله؟
قال أبو موسى: يقتل بكتاب الله.
قال: فمن يقتله؟
قال: أولياء عثمان.
قال: فإنّ الله يقول في كتابه العزيز: (ومن قُتِل مظلوماً فقد جعلنا لوليّه سلطاناً).
قال: فهل تعلم أنّ معاوية من أولياء عثمان؟
قال: نعم.
قال عمرو للقوم: إشهدوا.
قال أبو موسى للقوم: اشهدوا على ما يقول عمرو.
ثمّ قال أبو موسى لعمرو: قم يا عمرو، فقل وصرّح بما أجمع عليه رأيي ورأيك وما اتفقنا عليه.
فقال عمرو: سبحان الله! أقوم قبلك، وقد قدّمك الله قبلي في الإيمان والهجرة، وأنت وافد أهل اليمن إلى رسول الله، ووافد رسول الله إليهم، وبك هداهم الله وعرّفهم شرائع دينه وسنّة نبيّه، وصاحب مغانم أبي بكر وعمر؟ ولكن أنت قم فقل، ثمّ أقوم فأقول.
فقام أبو موسى، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: أيّها النّاس، إنّ خير النّاس للنّاس خيرهم لنفسه، وإنّي لا أهلك ديني بصلاح غيري، إنّ هذه الفتنة قد أكلت العرب، وإنّي جقدج رأيت وعمرو أن نخلع عليّاً ومعاوية، ونجعلها لعبدالله بن عمر، فإنّه لم يبسط في هذه الحرب يداً ولا لساناً»(4).
وقال نور الدين علي بن محمّد الصبّاغ الفقيه المالكي ـ وترجمته في كتاب الضوء اللاّمع(5) ـ :
«ولمّا راود عمرو بن العاص أبا موسى على معاوية وعلى ابنه عبدالله فأبى أبو موسى منه، راود أبو موسى عمراً على تولية الخلافة لعبدالله بن عمر رضي الله عنهما، فأبى عمرو منه، ثمّ قال له: هات رأياً غير هذا.
فقال أبو موسى: أرى أن نخلع هذين الرجلين ـ يعني عليّاً ومعاوية ـ ونجعل الأمر شورى، فيختار المسلمون من أحبّوه.
فقال عمرو: الرأي ما رأيت.
فأقبلا على النّاس بوجوههما، وهم مجتمعون ينظرون ما يتفقان عليه.
فقال عمرو: تكلّم يا أباموسى، وأخبرهم أنّ رأينا اتفق.
فقال أبو موسى: أيّها النّاس، إنّ رأينا قد اتفق على أمر، نرجو أن يصلح الله تعالى به أمر هذه الاُمّة ويلمّ شعثها ويجمع كلمتها.
فقال عمرو: صدق أبو موسى وبرّ فيما قال، فتقدّم يا أبا موسى فتكلّم.
فقام إليه عبدالله بن عبّاس وقال له: يا أبا موسى، إن كنت وافقته على أمر فقدّمه يتكلّم به قبلك، فإنّي أخشى من خديعته لك، وإنّي لا آمن أن يكون قد أعطاك الرضا فيما بينك وبينه، فإذا قمت في النّاس خالفك.
فقال أبو موسى: قد توافقنا وتراضينا، وما ثمّ مخالفة أبداً.
وكان أبو موسى رجلاً سليم القلب، فتقدّم، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال:
أيّها النّاس! إنّا قد نظرنا في أمر هذه الاُمّة، فلم نر أصلح لأمرها ولا ألمّ لشعثها من أمر قد اجتمع رأيي ورأي عمرو عليه، وهو أن نخلع عليّاً ومعاوية، وتستقبل هذه الاُمّة هذا الأمر بأنفسها، فيولّوا عليهم من أحبّوا واختاروا، وإنّي قد خلعت عليّاً ومعاوية، فاستقبلوا أمركم، وولّوا عليكم من رأيتموه أهلاً لذلك»(6).
وفي (تاريخ الخميس):
«ولمّا سئم الفريقان القتال تداعيا إلى الحكومة، فرضي عليّ وأهل الكوفة بأبي موسى الأشعري، ورضي معاوية وأهل الشام بعمرو بن العاص، فاجتمع الحكمان بدومة الجندل، واتفقا على أن يخلعاهما معاً، ويختارا للمسلمين خليفة رضوا به، وقد عيّن للخلافة الحكمان يومئذ عبدالله بن عمر ابن الخطّاب، كذا في دول الإسلام، ثمّ اجتمعا بالنّاس، وحضر معاوية ولم يحضر عليّ، فبدأ أبو موسى وخلع عليّاً، ثمّ قام عمرو وقال: قد خلعت عليّاً كما خلعه، وأثبتُّ خلافة معاوية»(7).
(1) تذكرة خواص الاُمّة: 97.
(2) مفتاح النجا في مناقب آل العبا ـ مخطوط.
(3) مرآة الجنان 1: 86 ـ 87.
(4) الإمامة والسياسة: 136 ـ 137.
(5) الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، المجلّد 3: 283/958.
(6) الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة: 99 ـ 100.
(7) تاريخ الخميس 2: 277.