عبدالله بن الزبير يحاول إقناع أبيه
ولكن عبدالله بن الزبير حاول إقناع أبيه بالبقاء في المعركة واستمرار المحاربة والمشاركة في البغي والعدوان، قال سبط ابن الجوزي:
«ثمّ التقوا منتصف جمادى الاُولى من هذه السنة ـ يعني سنة ست وثلاثين ـ فلمّا تراءى الجمعان، خرج الزبير على فرس وعليه سلاحه، وخرج طلحة، فخرج إليهما عليّ ودنا منهما وعليه قبا طاق، حتّى ا ختلفت أعنّة خيلهم، فقال لهما علي: لعمري لقد أعددتما خيلاً وسلاحاً، فهل أعددتما عند الله عذراً؟ فاتّقيا الله ولا تكونا كالتي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً، ألم أكن أخاكما في دينكما تحرّمان دمي وأحرّم دمكما؟
فقال طلحة: ألّبت الناس على عثمان.
فقال: لعن الله من ألّب النّاس على عثمان، وأين أنت يا طلحة ودم عثمان؟
وأنت يا زبير، أتذكر يوم مررت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بني غنم، فنظر إليّ فضحك صلّى الله عليه وسلّم وضحكت إليه صلّى الله عليه وسلّم، فقلتَ: لا يدع ابن أبي طالب زهوه، فقال لك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّه ليس بمزهو، ولتقاتلنّه وأنت ظالم له.
وفي رواية: أتذكر يوم لقيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بني بياضة وهو راكب على حمار، وذكّره.
فقال الزبير: اللّهمّ نعم، ولو ذكرت هذا ما خرجت من المدينة، ووالله لااُقاتلك أبداً.
وفي رواية: فقال الزبير: فما الذي أصنع وقد التقتا حلقتا البطان، ورجوعي علَيّ عار؟
فقال له عليٌّ: إرجع بالعار ولا تجمع بين العار والنّار.
فرجع الزبير وهو يقول:
اخترت عاراً على نار مؤجّجة *** أنّى يقوم لها خلق من الطّين
نادى عليٌّ بأمر لست أجهله *** عار لعمرك في الدّنيا وفي الدّين
فقلت حسبك من لوم أباحسن *** فبعض هذا الذي قد قلت يكفيني
وهذا من جملة أبيات الزبير قالها لمّا خرج من العسكر، وأوّلها:
ترك الاُمور التي يخشى عواقبها *** لله أجمل في الدنيا وفي الدين
أخال طلحة وسط القوم منجدلاً *** ركن الضعيف ومأوى كلّ مسكين
قد كنت أنصره حيناً وينصرني *** في النائبات ويرمي من يراميني
حتّى ابتليت بأمر ضاق مصدره *** فأصبح اليوم ما يعنيه يعنيني
ثمّ انصرف طلحة والزبير، فقال عليٌّ لأصحابه: أمّا الزبير فقد أعطى الله عهداً أن لا يقاتلكم، ثمّ عاد الزبير إلى عائشة وقال لها: ما كنت في موطن منذ عقلت عقلي إلاّ وأنا أعرف أمري، إلاّ هذا.
قالت له: فما تريد أن تصنع؟
قال: أذهب وأدعهم.
فقال له عبدالله ولده: جمعت هذين الفريقين، حتّى إذا جدّ بعضهم لبعض أردت أن تتركهم وتذهب، أحسست برايات ابن أبي طالب فرأيت الموت الأحمر منها أو من تحتها، تحملها فتية أنجاد سيوفهم حداد.
فغضب الزبير وقال: ويحك قد حلفت أن لا اُقاتله.
فقال: كفّر عن يمينك.
فدعا غلاماً له يقال له مكحول فأعتقه.
فقال عبدالرحمن بن سليمان التميمي:
لم أر كاليوم أخا خوان *** أعجب من مكفّر الأيمان
بالعتق في معصية الرحمن
وقال آخر:
يعتق مكحولاً لصون دينه *** كفّارة لله عن يمينه
والنكث قد لاح على جبينه
وفي رواية: إنّ الزبير ـ لمّا قال له ابنه ذلك ـ غضب، فقال له ابنه: والله لقد فضحتنا فضيحة لا نغسل منها رؤوسنا أبداً. فحمل الزبير حملة منكرة»(1) إنتهى بقدر الضرورة.
وفي هذه العبارة أيضاً فوائد كثيرة لا تخفى على من تأمّل فيها، فلا الإعتذار بأنّ الطرفين ما كانا قاصدين لاشتعال الحرب ينفع، ولا الإعتذار للزبير بنسيان ما قاله رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم له من قبل…
لكن العجيب جدّاً: إصرار عبدالله على الحرب، فإنّه لم يرتدع عنها بما ارتدع به أبوه، وهو كلام رسول الله الذي ذكّره الإمام به، بل جعل يؤنّب أباه ويحاول أن يعيده إلى القتال ويغريه إلى الحرب.
(1) تذكرة خواص الامة في معرفة الأئمّة : 71 ـ 72 .