طعن مسلم فيمن قال بمقالة البخاري
هذا، وقد صرّح مسلم بن الحجاج بالطعن والتشنيع على بعض الأقوال وأصحابها في باب رواية الحديث ونقله، والحال أنّ البخاري من القائلين بذلك القول، وهذا نصّ كلام مسلم في باب ما تصحّ به رواية الرواة بعضهم عن بعض والتنبيه على من غلط في ذلك:
«وقد تكلّم بعض منتحلي الحديث من أهل عصرنا في تصحيح الأسانيد وتسقيمها، بقول لو ضربنا عن حكايته وذكر فساده صفحاً، لكان رأياً متيناً ومذهباً صحيحاً، إذ الإعراض عن القول المطرح أحرى لإماتته وإخمال ذكر قائله، وأجدر أن لا يكون ذلك تنبيهاً للجهّال عليه، غير أنّا لمّا تخوّفنا من شرور العواقب واغترار الجهلة بمحدثات الاُمور، وإسراعهم إلى اعتقاد خطأ المخطئين والأقوال الساقطة عند العلماء، رأينا الكشف عن فساد قوله ورَدّ مقالته بقدر ما يليق بها من الردّ، أجدى على الأنام وأحمد للعاقبة إن شاء الله.
وزعم القائل الذي افتتحنا الكلام على الحكاية عن قوله والإخبار عن سوء رويّته: أنّ كلّ إسناد لحديث فيه فلان عن فلان، وقد أحاط العلم بأنّهما قد كانا في عصر واحد، وجائز أن يكون الحديث الذي روى الراوي عمّن روى عنه قد سمعه منه وشافهه به، غير أنّه لا نعلم له منه سماعاً، ولم نجد في شيء من الروايات أنّهما التقيا قط أو تشافها بحديث، أنّ الحجّة لا تقوم عنده بكلّ خبر جاء هذا المجيء، حتّى يكون عنده العلم بأنّهما قد اجتمعا من دهرهما مرّة فصاعداً أو تشافها بالحديث بينهما، أو يرد خبر فيه بيان اجتماعهما وتلاقيهما مرّة من دهرهما فما فوقها، فإن لم يكن عنده علم ذلك، ولم تأت به رواية صحيحة تخبر أنّ هذا الراوي عن صاحبه قد لقيه مرّة وسمع منه شيئاً، لم يكن في نقله الخبر عمّن روى عنه علم ذلك والأمر كما وصفنا حجّة، وكان الخبر عنده موقوفاً حتّى يرد عليه سماعه منه لشيء من الحديث، قلّ أو كثر في رواية مثل ما ورد.
وهذا القول ـ يرحمك الله ـ في الطعن في الأسانيد قول مخترع مستحدث غير مسبوق صاحبه إليه، ولا مساعد له من أهل العلم عليه، وذلك أنّ القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار والروايات قديماً وحديثاً: أنّ كلّ رجل ثقة روى عن مثله حديثاً، وجائز ممكن له لقاؤه والسماع منه لكونهما جميعاً كانا في عصر واحد ـ وإن لم يأت في خبر قط أنّهما اجتمعا ولا تشافها بكلام ـ فالرواية ثابتة والحجّة بها لازمة، إلاّ أن يكون هناك دلالة بيّنة أنّ هذا الراوي لم يلق من روى عنه، أو لم يسمع منه شيئاً، فأمّا والأمر مبهمٌ على الإمكان الذي فسّرنا، فالرواية على السماع أبداً حتّى تكون الدلالة التي بيّنّا.
فيقال لمخترع هذا القول الذي وصفنا مقالته أو للذابّ عنه، قد أعطيت في جملة قولك أنّ خبر الواحد الثقة عن الواحد الثقة حجّة يلزم به العمل، ثمّ أدخلت فيه الشرط بعد، فقلت حتّى نعلم أنّهما قد كانا التقيا مرّةً فصاعداً أو سمع منه شيئاً، فهل تجد هذا الشرط الذي اشترطته عن أحد يلزم قوله، وإلاّ فهلمّ دليلاً على ما زعمت، فإن ادّعى قول أحد من علماء السلف بما زعم من إدخال الشريطة في تثبيت الخبر طولب به، ولن يجد هو ولا غيره إلى إيجاده سبيلاً».
وأيضاً قال: «وكان هذا القول الذي أحدثه القائل الذي حكيناه في توهين الحديث بالعلّة التي وصف، أقلّ من أن يعرّج عليه ويُثار ذكره، إذ كان قولاً محدثاً وكلاماً خلفاً، لم يقله أحد من أهل العلم سلف، ويستنكره من بعدهم خلف، فلا حاجة بنا في ردّه بأكثر ممّا شرحنا، إذا كان قدر المقالة وقائلها القدر الذي وصفناه، والله المستعان على دفع ما خالف مذهب العلماء، وعليه التكلان»(1).
وقال النووي في شرح هذا الكلام:
«حاصل هذا الباب أنّ مسلماً ـ رحمه الله ـ ادّعى إجماع العلماء قديماً وحديثاً على أنّ المعنعن ـ وهو الذي فيه عن فلان ـ محمول على الإتصال والسماع، إذا أمكن لقاء من اُضيفت العنعنة إليهم بعضهم بعضاً، يعني مع براءتهم من التدليس، ونقل مسلم عن بعض أهل عصره أنّه قال لا يقوم الحجّة بها، ولا الحمل على الاتصال، حتّى يثبت أنّهما التقيا في عمرهما مرّة فأكثر، ولا يكفي إمكان تلاقيهما. قال مسلم: وهذا قول ساقط مخترع مستحدث، لم يسبق قائله إليه ولا مساعد له من أهل العلم عليه، وإنّ القول به بدعة باطلة، وأطنب مسلم في الشناعة على قائله، واحتجّ مسلم بكلام مختصره: أنّ المعنعن عند أهل العلم محمول على الإتصال، إذا ثبت التلاقي مع احتمال الإرسال، فكذا إذا أمكن التلاقي، وهذا الذي صار إليه مسلم قد أنكره المحققون وقالوا: هذا الذي صار إليه مسلم ضعيف، والذي ردّه هو المختار الصحيح الذي عليه أئمّة هذا الفن، مثل علي بن المديني والبخاري وغيرهما»(2).
(1) صحيح مسلم 1: 35.
(2) المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجّاج 1: 127 ـ 128.