حديث مجادلة الإمام مع النبي في صلاة الليل
(ومنها) ما أخرجه البخاري، على ما في كتاب (التحفة) للدهلوي، حيث جاء فيه:
«روى البخاري ـ الذي هو أصحّ الكتب عند أهل السنّة بعد القرآن ـ بطرق متعدّدة أنّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم ذهب إلى بيت الأمير والبتول ليلةً وأيقظهما من مضجعهما، وأمرهما بصلاة التهجّد مؤكَّداً، فقال الأمير: والله ما نصلّي إلاّ ما كتب الله علينا. أي الصّلاة المفروضة، وإنّما أنفسنا بيد الله. يعني: لو وفّقنا الله لصلاة التهجّد لصلّينا. فرجع النبي وهو يضرب على فخذيه ويقول: (وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً)»(1).
وإنّ هذا لمن أقبح الإفتراءات وأشنع الأكاذيب، أيّاً كان واضعه وراويه، لكنّ القوم لا يستحيون، وبه وبمثله يحتجّون؟
فهل يصَّدق أحد إباء أميرالمؤمنين عليه السلام عن قيام الليل والصلاة لله نافلةً، مع ما هو عليه من العبادة والعبوديّة لله عزّ وجلّ؟
وهل يصدَّق مجادلته مع رسول الله في دعوته إيّاه إلى القيام والصّلاة، مع ما كان عليه من كثرة إطاعته له في كلّ شيء؟
وهل يصدَّق أن يستدلّ أمام النبيّ كاستدلال أهل الجبر؟
إنْ هذا إلاّ من وضع النواصب المبغضين للنبي والوصي، ولا يصدِّق به إلاّ من كان على شاكلتهم!!
إنّك لن تجد أحداً من آحاد المؤمنين يُؤمر بالصّلاة فيأبى بهذه الشدّة ويقول: «والله لا نصلّي إلاّ ما كتب الله لنا» لاسيّما والآمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، لأنّ مثل هذا الكلام معه ـ وفي قبال دعوته إلى الصلاة والعبادة ـ استخفاف به وبأمره، وهذا ما لا يصدر من أحد من سائر المؤمنين، فكيف بمولانا علي عليه السلام، الممتثل لأوامر رسول الله، والتابع له في كلّ شيء، والذي كان أعبد الناس بعده؟ يقول ابن أبي الحديد المعتزلي الحنفي عن عبادته عليه السلام:
«وأمّا العبادة، فكان أعبد الناس وأكثرهم صلاةً وصوماً، ومنه تعلّم الناس صلاة الليل وملازمة الأوراد وقيام النافلة، وما ظنّك برجل يبلغ من محافظته على ورده أنْ يُبسط له نطع بين الصفّين ليلة الهرير، فيصلّي عليه ورده والسهام تقع بين يديه، وتمرّ على صماخيه يميناً وشمالاً فلا يرتاع لذلك، ولا يقوم حتّى يفرغ من وظيفته، وما ظنّك برجل كانت جبهته كثفنة البعير لطول سجوده!
وأنت إذا تأمّلت دعواته ومناجاته، ووقفت على ما فيها من تعظيم الله سبحانه وإجلاله، وما يتضمّنه من الخضوع لهيبته، والخشوع لعزّته والإستحذاء له، عرفت ما ينطوي عليه من الإخلاص، وفهمت من أيّ قلب خرجت، وعلى أيّ لسان جرت.
وقيل لعليّ بن الحسين عليه السلام ـ وكان الغاية في العبادة ـ: أين عبادتك من عبادة جدّك؟ قال: عبادتي عند عبادة جدّي كعبادة جدّي عند عبادة رسول الله صلّى الله عليه وآله»(2).
ويقول الشيخ محمّد بن طلحة الشافعي:
«الفصل السابع: في عبادته وزهده وورعه: أمّا عبادته عليه السلام، فاعلم سلك الله بنا وبك سبيل السعادة: أنّ حقيقة العبادة هي الطاعة; فكلّ من أطاع الله تعالى، وقام بامتثال الأوامر واجتناب المناهي فهو عباد، ولمّا كانت متعلّقات الأوامر الصادرة من الله تعالى على لسان نبيّه صلّى الله عليه وسلّم كانت العبادة بحسب ذلك متنوّعة، فمنها الصلاة ومنها الصدقة ومنها الصيام إلى غيرها من الأنواع، وكلّ ذلك كان عليه السلام قائماً فيه، مقبلاً عليه مسارعاً إليه متحلّياً به، حتّى أدرك بمسارعته إلى طاعة الله ورسوله ما فات غيره، فإنّه جمع بين الصلاة والصدقة، فتصدّق وهو راكع في صلاته، فجمع بينهما في وقت واحد، حتّى أنزل الله تعالى فيه قرآناً يتلى إلى يوم القيامة».
وقال بعد ذكر قصّة الصدقة ونزول الآية (إنّما وليّكم الله) في شأنه عليه السلام، وذكر تفرّده عليه السلام بالعمل بآية النجوى، ونزول (ويطعمون الطعام على حبّه) في حقّه:
«إعلم أنّ أنواع العبادة كثيرة، وكان عليّ عليه السلام جامعاً لجميعها، فإنّ من تيقّن حقيقة الآخرة بأحوالها وتحقّق شدائد أهوالها، وأنّ كلّ نفس عند مردّها ومآلها تلزم بجواب سؤالها، وتجثو بين يدي خالقها لجدالها، وتجازى على ما أسلفته من أعمالها، إمّا بنعيمها وإمّا بنكالها، خليق أن يكون عن ساق جدّه في عبادته مشمّراً، وأن يجعل وقته على اكتساب طاعات ربّه متوفّراً، فإنّه لا يقصر في العبادة إلاّ من فقد اليقين ولم يكن من المتّقين، وقد كان عليّ منطوياً على يقين لا غاية لمداه ولا نهاية لمنتهاه، وقد صرّح بذلك تصريحاً مبيّناً فقال: لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً، فكانت عبادته إلى الغاية القصوى تبعاً ليقينه، وطاعته في الذروة العليا لمتانة دينه».
وقال أيضاً بعد ذكر طائفة من الروايات والأخبار:
«فهذه الوقائع والقضايا المفصّلة ـ التي أسفر له فجر نهارها وأبدر لديه قمر شعارها، وظهر عليه سرّ آثارها وانتشر عنه خبر أسارها ـ شاهدة له أنّه في العبادة ابن جلاها وفارع ذروة علاها، وضارب في أعشارها بمعلاها، وراكب من مطيّتها غارب مطاها، قد صدعت منطوقها ومفهومها، بأنّه قد حوى مقامات العابدين حتّى حلّ مقام الإمامة، واتّصف بسمات الزاهدين، فبيده زمام الزعامة، فتحلّى بالأمانة والعبادة والمحبّة والزهد والورع والمعرفة والتوكّل والخوف والرجاء والصبر والشكر والرضا والخشية، فهو ذو إخبات وتفكّر، ونسك وتدبّر وتهجّد وتذكّر وتأوّه وتحسّر، وأذكار وأوراد وإصدار وإيراد، فكابد من أنواع العبادات ووظائف الطّاعات ما لا يكاد الأقوياء ينهضون بحمل أعبائه، إلى أن نزل القرآن الكريم بمدحته، وأسفر بالثناء عليه من التنزيل وجه صحّته، حتّى نقل الواحدي رضي الله عنه في تفسيره، يرفعه بسنده إلى ابن عبّاس رضي الله عنه قال: إنّ عليّ ابن أبي طالب تملّك أربعة دراهم، فتصدّق بدرهم ليلاً، وبدرهم نهاراً، وبدرهم سرّاً، وبدرهم علانية، فنزلت فيه قوله تعالى: (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرّاً وعلانية فلهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)ومن تأمّل ما قصصناه من الوقائع والقضايا، وتدبّر ألفاظها ومعانيها، وجدها صادعة بالشهادة له بهذه المقدّمات، جامعة فيه ما فصّله القلم من الصفات، وكفاه شرفاً إنزال الله عزّ وجلّ مدحه في السور والآيات، وإنّها تتلى بألسنة الاُمّة إلى يوم القيامة في وظائف الصلاة.
هذي المزايا بعض ما حُلّي بها *** وحُبِي من الخيرات والبركات
وله وظائف طاعة أورادها *** معمورة الآناء والأوقات
بعبادة وزهادة وتورّع *** وتخشّع وتدرّع الإخبات
وتقلّل وتوكّل وتفكّر *** وتدبّر وتذكّر المثلات
وإذا الظلام سجى يناجي ربّه *** متضرّعاً بالذكر والدعوات
يعنو له بخضوع قلب خاشع *** وهموع طرف مسبل العبرات
عِلمٌ علت درجاته وفضائل *** شرفت معارجها على الشُرُفات
ومناقبٌ نطقت بها آي الكتاب *** وحسبها إن جاء شاهدها من الآيات»(3)
قال: «ونقل أنّ معاوية قال بعد موت عليّ لضرار بن صرد: صف لي عليّاً. فقال: أوتعفني؟ قال: بل صفه. قال: أوتعفني؟ قال: لا أعفيك. قال: أمّا إذا لابدّ فأقول ما أعلمه منه:
كان ـ والله ـ بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس باللّيل وظلمته، كان ـ والله ـ غزير الدمعة، طويل الفكرة، يقلّب كفّيه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللّباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب، كان ـ والله ـ كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويبتدينا إذا أتيناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحن والله مع تقريبه لنا وقربه منّا، لا نكلّمه هيبة ولا نبتديه عظمة، إن تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يُعَظِّم أهل الدين، ويحبّ المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، فاُشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سجوفه وغارت نجومه، وقد مثل في محرابه قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين، وكأنّي أسمعه ويقول: يا دنيا يا دنيا، أبي تعرّضت أم إليّ تشوّقت! هيهات هيهات، غرّي غيري، قد بتتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير وعيشك حقير وخطرك كثير، آه من قلّة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق. قال:
فذرفت دموع معاوية على لحيته، فلم يملكها وهو ينشفها بكمّه، وقد أخفق القوم بالبكاء.
فقال معاوية: رحم الله أباالحسن، كان ـ والله ـ كذلك. فكيف حزنك عليه يا ضرار؟
قال: حزن من ذبح ولدها في حجرها، فلا ترقُ عبرتها ولا يسكن حزنها»(4).
وعلى الجملة، فلا يمكن وصف زهد الإمام في دار الدنيا، وعبادته لله تبارك وتعالى، ولا يمكن لأحد إنكار ذلك، بل حتّى أعداؤه يعترفون، وليت أتباع معاوية اعترفوا كما اعترف، ولم يوافقوا على الحديث الموضوع المختلق!
وأمّا ما في الحديث، من نسبة التمسّك بشبه الجبريّة إلى الإمام عليه السلام، فإنّها أقبح وأشنع من نسبة الإباء عن الصّلاة عليه، لأنّ التمسّك بالقدر عند مثبتيه في غاية الشناعة، ونسبة ذلك إلى أميرالمؤمنين كفر وضلال… وإليك جملةً من عبارات ابن تيميّة في بطلان الإحتجاج بالقدر:
«الإحتجاج بالقدر حجّة باطلة داحضة باتّفاق كلّ ذي عقل ودين من جميع العالمين، والمحتج به لا يقبل من غيره مثل هذه الحجّة إذا احتجّ بها في ظلم أتاه وترك ما يجب عليه من حقوقه، بل يطلب منه ماله عليه ويعاقبه على عداوته، وإنّما هي من جنس شبه السوفسطائيّة التي تعرض في العلوم، فكما أنّك تعلم فسادها بالضرورة وإن كانت تعرض لكثير من الناس، حتّى قد يشكّ في وجود نفسه وغير ذلك من المعارف الضروريّة، فكذلك هذا يعرض في الأعمال حتّى يظنّ أنّها شبهة في إسقاط الصدق والعدل الواجب وغير ذلك، وإباحة الكذب والظلم وغير ذلك، ولكن يعلم القلوب بالضرورة أنّ هذه شبهة باطلة، وهذه لا يقبلها أحد عند التحقيق، ولا يحتجّ بها أحد إلاّ مع عدم علمه بالحجّة بما فعله، فإذا كان مع علمه بأنّ فعله هو المصلحة وهو المأمور، وهو الذي ينبغي فعله، لم يحتج بالقدر، وكذلك إذا كان معه علم بأنّ الذي لم يفعله ليس عليه أن يفعله، أو ليس بمصلحة، أو ليس هو مأموراً به، لم يحتج بالقدر، بل إذا كان متّبعاً لهواه بغير علم احتجّ بالقدر، ولهذا لمّا قال المشركون (لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرّمنا من شيء) قال الله تعالى: (هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتّبعون إلاّ الظنّ وإن أنتم إلاّ تخرصون* قل فلله الحجّة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين).
فإنّ هؤلاء المشركين يعلمون ـ بفطرتهم وعقولهم ـ أنّ هذه الحجّة داحضة وباطلة، فإنّ أحدهم لو ظلم الآخر في ماله أو فرج امرأته أو قتل ولده أو كان مصرّاً على الظلم، فنهاه الناس عن ذلك فقال: لو شاء الله لم أفعل هذا، لم يقبلوا هذه الحجّة، وهو لا يقبلها من غيره، وإنّما يحتجّ بها المحتج دفعاً للّوم بلا وجه، فقال الله لهم: (هل عندكم علم فتخرجوه لنا) بأنّ هذا السؤال من أمر الله وأنّه مصلحة ينبغي أن يفعل (إن تتّبعون إلاّ ظنّاً وإن أنتم إلاّ تخرصون)تحرزون وتفترون.
فعمدتكم في نفس الأمر طلبكم وحرصكم، ليس عمدتكم في نفس الأمر كون الله شاء ذلك وقدّره، فإنّ مجرّد المشيّة والقدرة لا تكون عمدة لأحد في الفعل، ولا حجّة لأحد على أحد، ولا عذراً لأحد، والناس كلّهم مشتركون في القدر، فلو كان هذا حجّة وعمدة، لم يحصل فرق بين العادل والظالم والصادق والكاذب والعالم والجاهل والبرّ والفاجر، فلم يكن فرق بين ما يصلح الناس من الأعمال وما يفسدهم، وما ينفعهم وما يضرّهم.
وهؤلاء المشركون المحتجّون بالقدر على ترك ما أرسل الله به رسله من توحيده والإيمان به، لو احتجّ بعضهم على بعض في سقوط حقوقه ومخالفة أمره لم يقبله منه، بل كان هؤلاء المشركون يذمّ بعضهم بعضاً على فعل ما يرونه تركاً لحقّهم أو ظلماً، فلمّا جاءهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعوهم إلى حقّ الله على عباده وطاعة أمره احتجّوا بالقدر، فصاروا يحتجّون بالقدر على ترك حقّ ربّهم ومخالفة أمره بما لايقبلونه ممّن ترك حقّهم وخالف أمرهم»(5).
وله كلام آخر طويل في تقبيح الإحتجاج بالقدر وإبطاله، ثمّ إنّه في آخر الكلام، ـ لنصبه وعداوته لأميرالمؤمنين عليه السلام ـ ينسب القدر إليه، ويتعرّض للخبر الموضوع عليه، وهذه عبارته:
«ثمّ نعلم إنّ هذه الحجّة باطلة بصريح العقل عند كلّ أحد مع الإيمان بالقدر وبطلان هذه الحجّة لا يقتضي التكذيب بالقدر، وذلك أنّ بني آدم مفطرون على احتياجهم إلى جلب المنفعة ودفع المضرّة، ولا يعيشون ولا يصلح لهم دنيا ولا دين إلاّ بذلك، فلابدّ أن يأتمروا بما فيه تحصيل منافعهم ودفع مضارّهم، سواء بعث إليهم رسول أو لم يبعث، لكن علمهم بالمنافع والمضار بحسب عقولهم وقصودهم، والرسل صلوات الله عليهم بعثوا بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، فأتباع الرسل أكمل الناس في ذلك، والمكذّبون للرسل انعكس الأمر في حقّهم، فصاروا يتّبعون المفاسد ويعطّلون المصالح، فهم شرّ الناس، ولابدّ لهم مع ذلك من اُمور يجتلبونها واُمور يجتنبونها، وأن يدافعوا جميعاً ما يضرّهم من الظلم والفواحش ونحو ذلك.
فلو ظلم بعضهم بعضاً في دمه وماله وحرمته، فطلب المظلوم الإقتصاص والعقوبة، لم يقبل أحد من ذوي العقول احتجاج بالقدر، ولو قال: اعذروني فإنّ هذا كان مقدّراً عليّ، لقالوا: وأنت لو فعل بك ذلك فاحتجّ عليك ظالمك بالقدر لم تقبل منه، وقبول هذه الحجّة توجب الفساد الذي لا صلاح معه، وإن كان الإحتجاج بالقدر مردوداً في فطر جميع الناس وعقولهم، مع أنّ جماهير الناس مُقرّون بالقدر، فعلم أنّ الإقرار بالقدر لا ينافي دفع الإحتجاج به، بل لابدّ من الإيمان به ولابدّ من ردّ الإحتجاج به.
ولمّا كان الجدل ينقسم إلى حقّ وباطل، وكان من لغة العرب أنّ الجنس إذا انقسم إلى نوعين أحدهما أشرف من الآخر، خصّوا الأشرف باسم الخاص وعبّروا عن الآخر باسم العام، كما في لفظ الجائز العام والخاص والمباح العام والخاص، وذوي الأرحام العام والخاص، ولفظ الجواز العام والخاص، ويطلقون لفظ الحيوان على غير الناطق، لاختصاص الناطق باسم الإنسان، غلوا في لفظ الكلام والجدل، فلذلك يقولون فلان صاحب كلام ومتكلّم إذا كان يتكلّم بلا علم، ولهذا ذمّ السلف أهل الكلام والكلام، وكذلك الجدل إذا لم يكن الكلام بحجّة صحيحة لم يكن إلاّ جدلاً محضاً.
والإحتجاج بالقدر من هذا الباب، كما في الصحيح: عن عليّ رضي الله عنه قال: طرقني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفاطمة فقال: ألا تقومان تصلّيان؟ فقلت: يا رسول الله، إنّما أنفسنا بيد الله، إن شاء أن يبعثنا بعثنا. قال: فولّى وهو يقول: (وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً)، فإنّه لمّا أمرهم بقيام اللّيل فاعتلّ علي بالقدر وأنّه لو شاء الله لأيقظنا، علم النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّ هذا ليس فيه إلاّ مجرّد الجدل الذي ليس بحق فقال: (وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً)»(6).
وإذا كان التمسّك والإحتجاج بالقدر بهذه المثابة من القبح، فإنّ نسبة ذلك إلى الإمام عليه الصّلاة والسلام لا يكون إلاّ عن النصب والعناد له، ولا يصدّق به أحد من ذوي الفهم والعقل، فضلاً عن أهل الإيمان والإيقان.
بل لقد ذكر ابن تيميّة في موضع آخر من كتابه، أنّ من يحتجُّ بالقدر فهو شرّ من اليهود والنصارى… إلى غير ذلك، وهذا نصّ كلامه:
«وهذا السؤال ـ أعني لزوم إفحام الأنبياء في جواب الكفّار ـ إنّما يتوجّه على من يسوّغ الإحتجاج بالقدر، ويقيم عذر نفسه أو غيره إذا عصى بأنّ هذا مقدّر، على أنّ شهود الحقيقة الكونيّة ـ وهؤلاء كثيرون في الناس، وفيهم من يدّعي أنّه من الخاصّة العارفين أهل التوحيد، الذين فنوا في توحيد الربوبيّة ـ يقولون: إنّ العارف إذا فنى في شهود توحيد الربوبيّة لم يستحسن حسنه ولم يستقبح قبحه، وهذا الضرب كثير في متأخّري الشيوخ النسّاك والصوفيّة والفقراء بل في الفقهاء والاُمراء والعامّة، ولا ريب أنّ هؤلاء شرّ من الشيعة والمعتزلة الذين يقرّون بالأمر والنهي وينكرون القدر.
وبمثل هؤلاء طال لسان المعتزلة والشيعة في المنتسبين إلى السنّة، فإنّ من أقرّ بالأمر والنهي والوعد والوعيد وفعل الواجبات وترك المحرّمات، ولم يقل أنّ الله خلق أفعال العباد، ولا يقدر على ذلك ولا شاء المعاصي، هو قد قصد تعظيم الأمر وتنزيه الله تعالى عن الظلم وإقامة حجّة الله على نفسه، لكن ضاق عَطْنه فلم يخيّل الجمع بين قدرة الله التامّة، وبين المشيّة العامّة وخلقه الشامل، بين عدله وحكمته وأمره ونهيه ووعده ووعيده، فجعل لله الحمد ولم يجعل له تمام الملك، والذين أثبتوا قدرته ومشيّته وخلقه، وعارضوا بذلك أمره ونهيه ووعده ووعيده شرّ من اليهود والنصارى، كما قال هذا المصنّف، فإنّ قولهم يقتضي إفحام الرسل، ونحن إنّما نرد من أقوال هذا وغيره ما كان باطلاً، وأمّا الحقّ فعلينا أن نقبله من كلّ قائل، وليس لأحد أن يرد بدعة ببدعة ولا يقابل باطلاً بباطل، والمنكرون للقدر وإن كانوا في بدعة، فالمحتجّون به على الأمر أعظم بدعة، وإن كان أولئك يشبهون المجوس، فهؤلاء يشبهون المشركين المكذّبين للرسل الذين قالوا (لوشاء الله ما أشركنا ولا آباءنا ولا حرّمنا من شيء) وقد كان في أواخر عصر الصحابة رضي الله تعالى عنهم جماعة من هؤلاء القدريّة، وأمّا المحتجّون بالقدر على الأمر، فلا يعرف لهم طائفة من طوائف المسلمين معروفة، وإنّما كثروا في المتأخّرين»(7).
(1) مختصر التحفة الإثني عشرية: 281، وانظر التحفة الاثني عشرية: 286.
(2) شرح نهج البلاغة 1/27.
(3) مطالب السؤول: 137.
(4) مطالب السؤول: 131 ـ 132.
(5) منهاج السنّة 2: 3 ـ 5.
(6) منهاج السنّة 2: 13 ـ 15.
(7) منهاج السنّة 2: 11 ـ 12.