حديثٌ فيه بعث أبي بكر بلالاً مع النبي إلى الشام
فمن أحاديثه المكذوبة والباطلة: ما رواه في قضيّة سفر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الشام مع رجال من قريش، وأنّ أبابكر بعث معه بلالاً، وهذه عبارته: «حدّثنا الفضل بن سهل أبوالعبّاس البغدادي، نا عبدالرحمن بن غزوان، أنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري عن أبيه قال: خرج أبوطالب إلى الشام، وخرج معه النبي صلّى الله عليه وسلّم في أشياخ من قريش، فلمّا أشرفوا على الراهب هبط فحلّوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب ـ وكانوا قبل ذلك يمرّون به فلايخرج إليهم ولا يلتفت ـ قال: فهم يحلّون رحالهم ـ فجعل يتخلّلهم الراهب حتّى جاء فأخذ بيد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: هذا سيّد العالمين، هذا رسول ربّ العالمين يبعثه الله رحمة للعالمين.
فقال له أشياخ من قريش: ما علمك؟
فقال: إنّكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلاّ خرّ ساجداً، ولا يسجدان إلاّ لنبيّ، وإنّي أعرفه بخاتم النبوّة أسفل من غضروف كتفه مثل التفّاحة.
ثمّ رجع فصنع لهم طعاماً، فلمّا أتاهم به فكان هو في رعية الإبل فقال: أرسلوا إليه، فأقبل وعليه غمامة تُظِلُّه، فلمّا دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة، فلمّا جلس مال فيء الشجرة عليه فقال: اُنظروا إلى فيء الشجرة مال عليه. قال: بينما هو قائم عليهم وهو يناشدهم أن لا يذهبوا به إلى الروم، فإنّ الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فيقتلونه، فالتفت فإذا بسبعة قد أقبلوا من الروم فاستقبلهم فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا أنّ هذا النبي خارج في هذا الشهر فلم يبق طريق إلاّ بعث إليه باُناس وإنّا قد اُخبرنا خبره بعثنا إلى طريقك هذا. فقال: هل خلفكم أحد هو خير منكم؟ قالوا: إنّما اخترنا خيرةً لك لطريقك. قال: أفرأيتم أمراً أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس ردّه؟ قالوا: لا. قال: فبايعوه وأقاموا معه. قال: اُنشدكم بالله أيّكم وليّه؟ قالوا: أبوطالب. فلم يزل يناشده حتّى ردّه أبو طالب، وبعث معه أبوبكر بلالاً، وزوّده الراهب من الكعك والزيت.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلاّ من هذا الوجه»(1).
فقد نصّ كبار الأئمّة على أنّه حديث موضوع:
قال الذهبي ـ بترجمة عبدالرحمن بن غزوان ـ «قلت: أنكر ماله حديثه عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي بكر بن أبي موسى، في سفر النبي صلّى الله عليه وسلّم ـ وهو مراهق ـ مع أبي طالب إلى الشام وقصّة بحيرا، وممّا يدلّ على أنّه باطل قوله: وردّه أبوطالب وبعث معه أبوبكر بلالاً، وبلال لم يكن بعد خلق، وأبوبكر كان صبيّاً»(2).
وقال ابن القيّم: «فلمّا بلغ اثني عشر سنة خرج به عمّه إلى الشام، وقيل: كان تسع سنين، وفي هذه الخرجة رآه بحيرا الراهب وأمر عمّه أنْ لا يقدم به إلى الشام خوفاً عليه من اليهود، فبعثه عمّه مع بعض غلمانه إلى المدينة، ووقع في كتاب الترمذي وغيره: إنّه بعث معه أبوبكر بلالاً. وهو من الغلط الواضح، فإنّ بلالاً إذْ ذاك لعلّه لم يكن موجوداً، وإن كان فلم يكن معه عمّه ولا مع أبي بكر»(3).
وقال محمّد بن يوسف الشامي: «تنبيهات: الأوّل: وقع في حديث أبي موسى عند الترمذي: فلم يزل بحيرا يناشد جدّه حتّى ردّه وبعث معه أبوبكر بلالاً.
قال الحافظ شرف الدين الدمياطي ـ وتبعه في المورد والعيون ـ في قوله: وأرسل معه أبوبكر بلالاً نكارة، وأبوبكر حينئذ لم يبلغ العشر سنين، فإنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أسنّ من أبي بكر بأزيد من عامين، وقد قدّمنا ما كان سنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم حين سافر هذه السفرة.
وأيضاً: فإنّ بلالاً لم ينتقل لأبي بكر إلاّ بعد ذلك بأكثر من ثلاثين عاماً، فإنّه كان لبني خلف الجمحيين، وعندما عذّب في الإسلام اشتراه أبوبكر رحمة له واستنقاذاً له من أيديهم، وسيأتي بيان ذلك.
وذكر نحو ذلك الحافظ في الإصابة وزاد: أنّ هذا اللفظ مقتطع من حديث آخر اُدرج في هذا الحديث.
وفي الجملة هو وهم من أحد رواته.
وروى ابن مندة بسند ضعيف عن ابن عبّاس قال: إنّ أبابكر صحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو ابن ثماني عشرة سنة، والنبي صلّى الله عليه وسلّم ابن عشرين سنة، وهم يريدون الشام في تجارة، حتّى إذا نزل منزلاً فيه سدرة فقعد في ظلّها، ومضى أبوبكر إلى راهب يقال له بحيرا يسأله عن شيء، فقال له: من الرجل الذي في ظلّ السّدرة؟ فقال له: محمّد بن عبدالله بن عبدالمطّلب. فقال له: هذا والله نبيّ هذه الاُمّة، ما استظلّ تحتها بعد عيسى بن مريم إلاّ محمّد، وذكر الحديث.
قال الحافظ: فهذا ـ إن صحّ ـ يحتمل أن يكون في سفرة اُخرى بعد سفرة أبي طالب.
وذكر نحوه في الزهر وزاد: وقول ابن دحية يمكن أن يكون أبوبكر استأجر بلالاً حينئذ، أو يكون اُميّة بن خلف بعثه، غير جيّد لأمرين: أحدهما: إنّ أبابكر لم يكن معهم ولا كان في سنّ من يملك، وذكر نحو ما سبق في سنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم إذ ذاك، ثانيهما: إنّ بلالاً كان أصغر من أبي بكر، فلا يتّجه ما قاله بحال»(4).
وقال الدياربكري بعد ذكر هذا الحديث: «وفي حياة الحيوان: قال الحافظ الدمياطي: وفي الحديث وهم في قوله: وبعث معه أبوبكر بلالاً، إذ لم يكونا معه ولم يكن بلال أسلم، ولا ملكه أبوبكر، بل كان أبوبكر حينئذ لم يبلغ عشر سنين، ولم يملك أبوبكر بلالاً إلاّ بعد ذلك بأكثر من ثلاثين، وكذا ضعّفه الذهبي.
قال ابن حجر: رجال هذا الحديث ثقات، وليس فيه منكر سوى قوله: وبعث معه أبوبكر…»(5).
وقال ابن سيّد الناس: «قلت: ليس في إسناد هذا الحديث إلاّ من خرّج له في الصحيح، وعبدالرحمن بن غزوان ـ أبو نوح لقبه قراد ـ انفرد به البخاري، ويونس بن أبي إسحاق انفرد به مسلم. ومع ذلك ففيه نكارة، وهي إرسال أبي بكر مع النبي صلّى الله عليه وسلّم بلالاً، وكيف؟ وأبوبكر حينئذ لم يبلغ العشر سنين، فإنّ النبي أسنّ من أبي بكر بأزيد من عامين، وكانت للنبي يومئذ تسعة أعوام على ما قاله أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري وغيره، أو اثنا عشر عاماً على ما قاله آخرون.
وأيضاً: فإنّ بلالاً لم ينتقل لأبي بكر إلاّ بعد ذلك بأكثر من ثلاثين عاماً، فإنّه كان لبني خلف الجمحيين، وعندما عذّب في الله على الإسلام اشتراه أبوبكر استنقاذاً له من أيديهم، وخبره بذلك مشهور»(6).
(1) صحيح الترمذي 5: 590/3620.
(2) ميزان الاعتدال 4: 306/4939.
(3) زاد المعاد 1: 76 ـ 77.
(4) سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد 2: 144.
(5) تاريخ الخميس 1: 258 ـ 259.
(6) عيون الأثر في المغازي والسير 1: 108.