تكلّفات الآخرين في حلّ العقدة
ومن القوم من يأبى تكذيب حديث البخاري، ويستحيي من الإلتزام بمدلوله ومعناه الظاهر بل الصريح فيه، فاُشكل عليه الأمر، وجعل يتكلَّف للخروج من المأزق!
قال السهيلي ـ بعد نقل حديث البخاري في كتاب الذبائح ـ :
«وفيه سؤال: يقال: كيف وفّق الله زيداً إلى ترك أكل ما ذبح على النصب وما لم يذكر اسم الله عليه، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان أولى بهذه الفضيلة في الجاهليّة، لِما ثبت من عصمة الله له؟
فالجواب من وجهين:
أحدهما: إنّه ليس في الحديث حين لقيه ببلدح، فقدّمت إليه السفرة، إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أكل منها، وإنّما في الحديث إنّ زيداً قال حين قدّمت إليه السفرة: لا آكل ممّا لم يذكر اسم الله عليه.
الجواب الثاني: إنّ زيداً إنّما فعل ذلك برأي رآه لا بشرع متقدّم، وإنّما تقدّم شرع إبراهيم بتحريم الميتة لا بتحريم ما ذبح لغير الله، وإنّما نزل تحريم ذلك في الإسلام، وبعض الاُصوليّين يقولون: الأشياء قبل ورود الشرع على الإباحة. فإن قلنا: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يأكل ممّا ذبح على النصب، فإنّما فعل أمراً مباحاً وإن كان لا يأكل منها، فلا إشكال، وإن قلنا أيضاً: إنّها ليست على الإباحة ولا على التحريم ، وهو الصحيح، فالذبائح خاصّة لها أصل في تحليل الشرع المتقدّم، فالشاة والبعير ونحو ذلك ممّا أحلّه الله تعالى في دين من كان قبلنا، ولم يقدح في ذلك التحليل المتقدّم ما ابتدعوه، حتّى جاء الإسلام وأنزل الله سبحانه (ولا تأكلوا ممّا لم يذكر اسم الله عليه)، ألا ترى كيف بقيت ذبائح أهل الكتاب على أصل التحليل بالشرع المتقدم، ولم يقدح في التحليل ما أحدثوه من الكفر وعبادة الصلبان، فكذلك كان ما ذبحه أهل الأوثان محلّلاً بالشرع المتقدّم حتّى خصّه القرآن بالتحريم»(1).
أقول:
وهذا الكلام في غاية السخافة والركّة، فإنّ مناط الإشكال ليس على مجرّد أكل ذبيحة الأصنام، بل إنّ تجويز أكلها ودعوة الغير إلى ذلك قبيح جدّاً، فحصر الإشكال في الأكل دليلٌ على عدم التدبّر وقلّة التأمّل، وكيف يصدّق العاقل الديّن أنْ لا يتنزّه رسول الله صلّى الله عليه وآله عمّا تنزّه منه زيد، وهو المعصوم بالعصمة الإلهيّة ـ بالإجماع القطعي ـ وأعقل الناس طُرّاً بلا خلاف:
قال القاضي عياض: «وأمّا وفور عقله، وذكاء لبّه، وقوّة حواسّه، وفصاحة لسانه، واعتدال حركاته، وحسن شمائله، فلا مرية أنّه كان أعقل الناس وأذكاهم، ومن تأمّل تدبيره أمر بواطن الخلق وظواهرهم وسياسة العامّة والخاصّة، مع عجيب شمائله وبديع سيره ـ فضلاً عمّا أفاضه من العلم وقدّره الشرع، دون تعلّم سَبَقَ ولاممارسة تقدّمت ولا مطالعة للكتب منه ـ لم يَمْتَرِ في رجحان عقله وثقوب فهمه لأوّل بديهة، وهذا ما لا يحتاج إلى تقرير لتحقّقه.
وقد قال وهب بن مُنَبِّه: قرأت في أحد وسبعين كتاباً، فوجدت في جميعها أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أرجح الناس عقلاً وأفضلهم رأياً. وفي رواية اُخرى: فوجدت في جميعها أنّ الله تعالى لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها من العقل في جنب عقله صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلّم، إلاّ كحبّة رمل من رمال الدنيا»(2).
فأيّ عاقل يقبل كلام السهيلي في حقّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، مع هذا المقام في العصمة والعقل والسداد؟
على أنّ أكابر القوم وأئمّتهم يصرّحون بأكل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من ذبيحة الأصنام بالفعل.
يقول ابن حجر: «وقد وقع في حديث سعيد بن زيد الذي قدّمته، وهو عند أحمد: فكان زيد يقول: عذت بما عاذ إبراهيم، ثمّ يخرّ ساجداً للكعبة، قال: فمرّ بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وزيد بن حارثة وهما يأكلان من سفرة لهما، فدعياه، قال: يا ابن أخي لا آكل ممّا ذبح على النصب، قال: فما رؤي النبي صلّى الله عليه وسلّم يأكل ممّا ذبح على النصب من يومه ذلك.
وفي حديث زيد بن حارثة عند أبي يعلى والبزار وغيرهما قال: خرجت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوماً من مكة وهو مردفي، فذبحنا شاةً على بعض الأنصاب، فأنصجناها، فلقينا زيد بن عمرو، فذكر الحديث مطوّلاً وفيه: فقال زيد: إنّي لا آكل ممّا لم يذكر اسم الله عليه»(3).
فهذا حديث أحمد وغيره من الأئمّة الأعلام… فأيّ فائدة في كلام السهيلي؟
على أنّ ما ادّعاه، من عدم حرمة أكل ما ذبح لغير الله في شريعة سيّدنا إبراهيم عليه السلام، فكذب صرف، لكنّ القوم يرتكبونه، حمايةً لأسلافهم وخرافاتهم!!
وقد كان من فضل الله أنْ ردّ الزركشي دعوى السهيلي هذه، ونصَّ على حرمة ما ذبح لغير الله في الشريعة الإبراهيميّة، إذ قال في (التنقيح) بشرح الحديث من كتاب المناقب:
«فقدّمت له سفرة، فأبى أنْ يأكل.
إن قيل: كان نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم أولى بهذه الفضيلة.
قلنا: ليس في الحديث أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أكل من السّفرة.
وأجاب السهيلي: بأنّ زيداً إنّما قال ذلك برأي منه، لا بشرع متقدّم، وفي شرع إبراهيم تحريم الميتة لا تحريم ما ذبح لغير الله، وإنّما نزل تحريم ذلك في الإسلام.
وهذا الذي قاله ضعيف، بل كان في شريعة الخليل تحريم ما ذبح لغير الله، وقد كان عدوّ الأصنام، والله تعالى يقول: (ثمّ أوحينا إليك أن اتّبع ملّة إبراهيم حنيفاً)(4)»(5).
فالحمد لله على أن جرت كلمة الحقّ هذه على لسان الزركشي، وظهر أنّ دعوى السهيلي كذب وبهتان مبين، قصد به الحماية على أسلافه الضالّين.
وجاء الخطّابي فسلك مسلكاً آخر… ذكره ابن حجر حيث قال:
«قوله: على أنصابكم، بالمهملة، جمع نصب بضمّتين، وهي أحجار كانت حول الكعبة يذبحون عليها للأصنام.
قال الخطابي: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يأكل ممّا يذبحون عليها للأصنام، ويأكل ما عدا ذلك، وإنْ كانوا لا يذكرون اسم الله عليه، لأنّ الشرع لم يكن نزل بعد، بل لم ينزل الشرع بمنع أكل ما لم يذكر اسم الله عليه إلاّ بعد البعث بمدّة طويلة»(6).
أقول:
لكنّ هذا الكلام شعري خطابي، ولا يرفع الإشكال عن حديث البخاري، لأنّه صريح في أنّ اللّحم الذي أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم زيداً بالأكل منه كان مذبوحاً على النصب، حتّى أنّ زيداً قال للنبي: إنّي لست آكل ممّا تذبحون على أنصابكم. ومن هنا أورد البخاري، هذا الحديث في كتاب الذبائح، باب ماذبح على النصب والأصنام.
وأيضاً، فما أخرجه أحمد والبزار وأبو يعلى، ونقله ابن حجر العسقلاني، صريح في أنّ ذلك اللّحم كان مذبوحاً على النصب.
على أنّ القول بأنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يأكل ممّا لم يذكر اسم الله عليه، باطل كذلك، لما تقدَّم في كلام الزركشي من تحريم ما ذبح لغير الله في شريعة سيّدنا الخليل عليه السلام، فكيف ينسب ذلك إلى رسول الله؟
فظهر أنّ كلام الخطابي أيضاً ضرب في بارد الحديد، لا ينفع أصلاً في الخلاص عن الإشكال الشديد، وكيف يجوّز ذوعقل وفهم سديد أنّ البشير النذير أكل ممّا ذبح على غير اسم الملك الحميد؟ فالله يعصمنا بفضله من اتّباع الشيطان المريد.
(1) الروض الأنف 2: 360 ـ 363.
(2) الشفا بتعريف حقوق المصطفى 1: 161 ـ 162.
(3) فتح الباري ـ شرح صحيح البخاري 7: 113.
(4) سورة النحل 19:123.
(5) التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح 2: 797 .
(6) فتح الباري 7: 112 ـ 113.