قال السيوطي:
«وبعدهم: ابن جرير الطبري، وكتابه أجلّ التفاسير وأعظمها، ثمّ ابن أبي حاتم، وابن ماجة، والحاكم، وابن مردويه، وأبوالشيخ ابن حيان، وابن المنذر، في آخرين.
وكلّها مسندة إلى الصحابة والتابعين وأتباعهم، وليس فيها غير ذلك، إلاّ ابن جرير، فإنّه يتعرّض لتوجيه الأقوال وترجيح بعضها على بعض، والإعراب والإستنباط، فهو يفوقها بذلك»(1).
أقول:
إنّ أفضل وأشرف تفاسير هذه الطبقة:
تفسير ابن جرير الطبري
كما قال السيوطي، بل لقد ادّعى الإجماع على ذلك، حيث قال:
«فإن قلت: فأيّ التفاسير ترشد إليه، وتأمر الناظر أنْ يعوّل عليه؟
قلت: تفسير الإمام أبي جعفر محمّد بن جرير الطبري، الذي أجمع العلماء والمفسّرون على أنّه لم يُؤلّف في التفسير مثله»(2).
وقال النووي:
«له التاريخ المشهور، وكتاب في التفسير لم يصنّف أحد مثله»(3).
وقال ياقوت الحموي نقلاً عن الخطيب:
«وله الكتاب المشهور في تاريخ الاُمم والملوك، وكتاب في تفسير القرآن لم يصنّف أحدٌ مثله»(4).
قال ياقوت:
«ومن كتبه: الكتاب المسمّى جامع البيان عن تأويل آي القرآن.
قال أبوبكر ابن كامل: أملى علينا من كتاب التفسير مائة وخمسين آية، ثمّ خرجه بعد ذلك إلى آخر القرآن فقرأه علينا، وذلك في سنة سبعين ومائتين، واشتهر الكتاب وارتفع ذكره. وأبوالعبّاس أحمد بن يحيى ثعلب وأبوالعبّاس محمّد بن يزيد المبرد يَحْيَيان، ولأهل الإعراب والمعاني معقلان، وكان أيضاً في الوقت غيرهما مثل: أبي جعفر الرستمي وأبي الحسن ابن كيسان والمفضّل بن سلمة والجعد وأبي إسحاق الزجاج وغيرهم من النحويّين من فرسان هذا الشأن، وحمل هذا الكتاب مشرقاً ومغرباً، وقرأه كلّ من كان في وقته من العلماء، وكلّ فضّله وقدّمه.
قال أبو جعفر: حدّثتني به نفسي وأنا صبي.
قال أبو جعفر: استخرت الله تعالى في عمل كتاب التفسير، وسألته العون على ما نويته ثلاث سنين قبل أن أعمله، فأعانني.
وقال أبو محمّد عبدالله بن أحمد بن جعفر الفرغاني: أخبرني شيخ من جِسْرِ ابن عفيف قال: رأيت في النوم كأنّي في مجلس أبي جعفر والنّاس يقرؤون عليه كتاب التفسير، فسمعت هاتفاً بين السماء والأرض يقول: من أراد أن يسمع القرآن كما اُنزل فليسمع هذا الكتاب.
ولم يتعرّض ـ أي الطبري ـ لتفسير غير موثوق به، فإنّه لم يدخل في كتابه شيئاً عن كتاب محمّد بن السائب الكلبي ولا مقاتل بن سليمان ولا محمّد بن عمر الواقدي، لأنّهم عنده أظنّاء»(5).
وقال السمعاني في (الأنساب):
«قال أبو حامد الإسفرائني: لو سافر رجل إلى الصين، حتّى يحصل له كتاب تفسير محمّد بن جرير، لم يكن ذلك كثيراً»(6).
وأمّا محمّد بن جرير الطبري نفسه، فتوجد مكارمه ومحامده في الكتب التالية:
تذكرة الحفّاظ 2: 710 ـ 716.
طبقات الشافعيّة للسبكي 3: 120 ـ 128.
طبقات الحفّاظ: 307 ـ 308.
وفيات الأعيان 4: 191 ـ 192.
مرآة الجنان 2: 260.
تاريخ بغداد 2: 162 ـ 169.
تهذيب الأسماء واللغات 1: 78 ـ 79.
سير أعلام النبلاء 14: 267 ـ 282.
وغيرها من كتب التاريخ وتراجم الرّجال.
قال ياقوت الحموي في (معجم الاُدباء) نقلاً عن الخطيب:
«كان أحد أئمّة العلماء، يحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه، لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظاً لكتاب الله عزّ وجلّ، عارفاً بالقراءات، بصيراً بالمعاني، فقيهاً بأحكام القرآن، عالماً بالسنن وطرقها وصحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها، عارفاً بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المخالفين في الأحكام ومسائل الحلال والحرام، عارفاً بأيّام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في تاريخ الاُمم والملوك، وكتاب في تفسير القرآن لم يصنّف أحد مثله، وكتاب سمّاه تهذيب الآثار لم أر سواه في معناه، لم يتمه.
قال ابن خزيمة ـ لمّا لاحظ تفسير ابن جرير ـ : ما أعلم على أديم الأرض أعلم من ابن جرير.
قال أبو محمّد بن عبدالعزيز بن محمّد الطبري: كان أبو جعفر من الفضل والعلم والذكاء والحفظ على ما لا يجهله أحد، لجمعه من علوم الإسلام ما لم نعلمه اجتمع لأحد من هذه الاُمّة، ولا ظهر من كتب المصنّفين وانتشر من كتب المؤلّفين ما انتشر له، وكان راجحاً في علوم القرآن والقراءات وعلم التاريخ من الرسل والخلفاء والملوك واختلاف الفقهاء مع الرواية لذلك، على ما في كتابه البسيط والتهذيب وأحكام القراءات، من غير تعويل على المناولات والإجازات، ولا على ما قيل في الأقوال، بل يذكر ذلك بالأسانيد المشهورة.
كان كالقاري الذي لا يعرف إلاّ القرآن، وكالمحدّث الذي لا يعرف إلاّ الحديث، وكالفقيه الذي لا يعرف إلاّ الفقه، وكالنحوي الذي لا يعرف إلاّ النحو، وكالحاسب الذي لا يعرف إلاّ الحساب، وكان عاملاً بالعبادات، جامعاً للعلوم، وإذا جمعت بين كتبه وكتب غيره وجدت لكتبه فضلاً على غيرها»(7).
أقول:
وإذا كان الطبري بهذه المنزلة، فلماذا يسقط كلامه عن الإعتبار إذا احتجَّ به أصحابنا في مورد ويُتكلَّم فيه؟
لقد احتجّ العلاّمة الحلّي برواية الطبري تهديد عمر بن الخطّاب فاطمة الزهراء الطاهرة عليها السلام بإحراق بيتها، فقال ابن روزبهان في جوابه:
«ومن أسمج ما افتراه الروافض هذا الخبر ـ وهو إحراق عمر بيت فاطمة ـ وما ذكر أنّ الطبري ذكره في التاريخ، فالطبري من الروافض مشهور بالتشيّع، حتّى أنّ علماء بغداد هجروه، لغلوّه في الرفض والتعصّب، وهجروا كتبه ورواياته وأخباره.
وكلّ من نقل هذا الخبر فلا يشك أنّه رافضي متعصّب، يريد إبداء القدح والطعن على الأصحاب، لأنّ العاقل المؤمن الخبير بأخبار السلف ظاهر عليه أنّ هذا الخبر كذب صراح وافتراء بيّن، لا يكون أقبح منه ولا أبعد من أطوار السلف»(8).
وإذا كان الطبري من الروافض، شمله كلّ ما ذكره ابن تيميّة وغيره للروافض، من القبائح والمثالب التي تفوق الحصر وتتجاوز حدّ الشرح والتبيين…
هذا، وقد سبقه إلى الإتّهام بالتشيّع الفخر الرازي في كتابه (نهاية العقول) في الكلام على النصّ على إمامة أميرالمؤمنين عليه السلام عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم:
«الثالث: إنّ هذا النص لو كان كذباً لما دعا إلى روايته إلاّ الهوى، فكان ينبغي أنْ لا يرويه من لا يهوى مقتضاه، وقد رواه أصحاب الحديث كابن جرير الطبري، وليس هو من الإماميّة، فبطل أن يكون كذباً».
فأجاب الرازي أوّلاً بأنّ الطبري لم يرو هذا النص ثمّ قال:
«ثمّ إن سلّمنا أنّه ذكره، فلعلّه رواه قبل أن تثبت عنده صحّة هذا الحديث، فإنّ من المحدّثين من يروي كلّ غثّ وسمين.
ثمّ إن سلّمنا ذلك، فلا نسلّم أنّه ما كان متّهماً بالتشيّع»(9).
فكان ابن جرير الطبري صاحب التفسير والتاريخ ممّن يروي الغثّ والسمين، وكان متّهماً بالتشيّع…!!
هذا، ومن العجائب تناقض ابن تيميّة تجاه ابن جرير وتفسيره، فإنّه لمّا لم يخرج ابن جرير حديث نزول آية الولاية في أميرالمؤمنين عليه السلام، جعل ابن تيميّة يمدحه ويمدح تفسيره، وينصُّ على خلوّه من الموضوعات(10)، حتّى إذا رأى أنّه قد روى بتفسير آية الإنذار نصّ النبي على أمير المؤمنين علي عليه السلام، بالإمامة والخلافة والولاية من بعده… جعل يذمّ تفسير ابن جرير ومؤلِّفه بشدّة…!!(11)
(1) الإتقان في علوم القرآن 4: 242.
(2) الإتقان في علوم القرآن 4: 244.
(3) تهذيب الأسماء واللغات 1: 78/8.
(4) معجم الاُدباء 18: 41/17.
(5) معجم الادباء 18: 61 ـ 65/17.
(6) الأنساب 4: 46.
(7) معجم الادباء 18: 41 ـ 43 و59 و61/17.
(8) ورد القول في دلائل الصدق 3: 79.
(9) نهاية العقول ـ مخطوط.
(10) منهاج السنّة 4: 5.
(11) منهاج السنّة 4: 128.