بين عبدالله بن الزبير والإمام الحسين عليه السلام
ومن دلائل حبّه للدنيا وشدّة عداوته لأهل البيت الأطهار عليهم الصلاة والسلام: موقفه مع الإمام السبط الشهيد الحسين بن علي في مكّة المكرّمة، وهذا من القضايا التاريخيّة الثابتة:
قال ابن فهد المكّي في (إتحاف الورى بأخبار اُمّ القرى):
«وفيها خرج الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه من المدينة إلى مكّة، فلقيه عبدالله بن مطيع فقال: جعلت فداك أين تريد؟ فقال: فأمّا الآن فمكّة وأمّا بعد، فإنّي أستخير الله تعالى، قال: خار الله لك وجعلنا فداك، فإذا أتيت مكّة فإيّاك أن تقرب الكوفة فإنّها بلدة مشومة، بها قُتِل أبوك وخُذِل أخوك واغتيل بطعنة كادت تأتي على نفسه، ألزم الحرم فإنّك سيّد العرب لا يعدل بك أهل الحجاز أحداً، ويتداما إليك الناس من كلّ جانب، لا تفارق الحرم فداك عمّي وخالي، فوالله لئن هلكت لنسترقّنّ بعدك.
فأقبل حتّى نزل مكّة وأهلها يختلفون إليه ويأتونه ومن بها من المعتمرين وأهل الآفاق، وابن الزبير بها قد لزم جانب الكعبة، فهو قائم يصلّي عندها عامّة النّهار ويطوف، ويأتي الحسين فيمن يأتيه، ولا يزال يشير عليه بالرأي وهو أثقل خلق الله على ابن الزبير، لأنّ أهل الحجاز لا يبايعونه مادام الحسين بالبلد.
وأرسل أهل الكوفة الحسين في المسير إليهم، فلمّا أراد المسير إلى الكوفة أتاه عمر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام فقال له: إنّي أتيتك لحاجة اُريد ذكرها نصيحة لك، فإن كنت ترى أنّك مستنصح قلتها وأدّيت ما علَيّ من الحقّ فيها، وإن ظننت أنّك لا تستنصحني كففت عمّا اُريد.
فقال: قل، فوالله ما أستغشّك وما أحملنّك بشيء من الهوى.
قال له: قد بلغني أنّك تريد العراق، وإنّي مشفق عليك أن تأتي بلداً فيها عمّاله واُمراؤه، ومعهم بيوت الأموال، وإنّما النّاس عبيد الدّنيا والدرهم، فلا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصره ومن أنت أحبّ إليه ممّن يقاتلك معه.
فقال له الحسين: جزاك الله خيراً يا ابن عم، قد علمت أنّك مشيت بنصح وتكلّمت بعقل، ومهما يقضى من أمر يكن، أخذت برأيك أو تركت، فأنت عندي أحمد مشير وأنصح ناصح.
وأتاه عبدالله بن عبّاس فقال: قد اُرجف النّاس أنّك سائر إلى العراق، فبيّن لي ما أنت صانع؟
فقال له: قد أجمعت السير في أحد يوميّ هذين، إن شاء الله تعالى.
فقال له ابن عبّاس: فإنّي اُعيذك بالله من ذلك، أخبرني أتسير إلى قوم قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم، فإن كانوا فعلوا فسر إليهم، وإن كانوا إنّما دعوك إليهم، وأميرهم عليهم قاهر عليهم وعمّاله تجبى بلاده، فإنّما دعوك إلى الحرب، ولا آمن عليك أن يغرّوك ويكذبوك ويخالفوك ويخذلوك، ويستنفروا إليك ويكونوا أشدّ النّاس عليك.
فقال الحسين: إنّي أستخير الله وأنظر ما يكون.
فخرج ابن عبّاس.
وأتاه ابن الزبير، فحدّثه ساعة ثمّ قال: ما أدري ما تركنا هؤلاء القوم وكفنّا عنهم، ونحن أبناء المهاجرين وولاة هذا الأمر دونهم، خبّر ما تريد أن تصنع؟
فقال الحسين: لقد حدّثت نفسي بإتيان الكوفة، ولقد كتب إليّ شيعتي بها وأشراف النّاس، وأستخير الله تعالى.
فقال له ابن الزبير: أمّا لو كان لي بها مثل شيعتك لما عدلت عنها.
ثمّ خشي أن يتّهمه فقال: أما إنّك لو أقمت بالحجاز، ثمّ أردت هذا الأمر هاهنا، حالفنا عليك وساعدناك وبايعنا لك ونصحنا لك.
فقال له الحسين: إنّ أبي حدّثني أنّ بها كبشاً يستحلّ حرمتها، فما أحبّ أن أكون أنا ذلك الكبش.
قال: فأقم إن شئت، ولك الأمن تطاع ولا تعصى.
قال: ولا اُريد هذا أيضاً.
ثمّ إنّهما أخفيا كلامهما، فالتفت الحسين إلى من هناك وقال: أتدرون ما يقول؟
قالوا: لا ندري جعلنا الله فداك.
قال: إنّه يقول: أقم في هذا المسجد أجمع لك النّاس.
ثمّ قال له الحسين: والله لأن اُقتل خارجاً منها بشبر أحبُّ إليَّ من أن اُقتل فيها، ولأن اُقتل خارجاً منها بشبرين أحبّ إليّ أن اُقتل خارجاً منها بشبر، وأيم ألله لو كنت في جحر هامّة من هذه الهوام لاستخرجوني حتّى يقضوا بي حاجتهم، والله ليعتدّنّ علَيّ كما اعتدت يهود في السبت.
فقام ابن الزبير، فخرج من عنده.
فقال الحسين: إنّ هذا ليس شيء من الدنيا أحبّ إليه من أن أخرج من الحجاز، وقد علم أنّ النّاس لا يعدلونه بي، فودّ أنّي خرجت حتّى يخلو له.
فلمّا كان من العشي أو من الغداة أتاه ابن عبّاس فقال: يا ابن عمّ، إنّي أتصبّر ولا أصبر، إنّي أتخوّف عليك وهذا اليوم الهلاك والإستيصال، إنّ أهل العراق قوم غدر ولا تقربنّهم، أقم بهذا البلد فإنّك سيّد أهل الحجاز، فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا، فاكتب إليهم فلينفوا عاملهم وعدوّهم ثمّ أقدم عليهم، وإن أبيت إلاّ أن تخرج فسر إلى اليمن، فإنّ فيها حصوناً وشعباً، وهي أرض طويلة عريضة، ولأبيك بها شيعة، وأنت عن النّاس في عزلة، فتكتب إلى النّاس، وبُثّ دعاتك، فإنّي أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تحبّ في عافية.
فقال الحسين: يا ابن عمّ، إنّي أعلم ـ والله ـ أنّك ناصح مشفق، وقد أزمعت وأجمعت السير.
فقال له ابن عبّاس: فإن كنت سائراً، فلا تسر بنسائك وصبيتك، فإنّي خائف أن تقتل، كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه.
ثمّ قال له ابن عبّاس: لقد أقررت عين ابن الزبير بالخروج من الحجاز، وهو اليوم لا ينظر إليه أحد معك، والله الذي لا إله إلاّ هو، لو أعلم أنّك إذا أخذت بشعري وأخذت بناصيتك حتّى يجتمع علينا النّاس أطعتني وأقمت، لفعلت ذلك، ثمّ خرج ابن عبّاس من عنده، فمرّ بابن الزبير، فقال: قرّت عينك يا ابن الزبير، ثمّ قال:
يالك من قنبرة بمعمر *** خلا لك الجوّ فبيضي واصفري
ونقّري ما شئت أن تنقّري
هذا حسين يخرج إلى العراق ويخلّيك والحجاز»(1).
فمن هذا يظهر خبث باطن ابن الزبير، وشدّة عدائه لأهل البيت عليهم السلام، وإلاّ لكان الإمام الحسين عليه السلام أحبّ النّاس إليه، وبقاؤه في مكّة أقرّ لعينه، لكنّه كان بالعكس، فقد كان الإمام الحسين في مكّة أثقل النّاس إليه، وكان يقول له بلسانه غير ما كان بقلبه ، ويبدي له خلاف ما يخفي عليه… والإمام عليه السلام عارف بواقع أمره وحقيقة سرّه، وكذلك فهم ابن عبّاس، حتّى قال للإمام الحسين لمّا عزم على الخروج: لقد أقررت عين ابن الزبير… فلو كان له أدنى حظّ من الإيمان وأقلّ قسط من الإيقان، لما صار قرير العين بمسير الحسين، بل بكى دماً وذاب ألماً، وصار قلبه مجروحاً وعينه مقروحاً، وأطال الحزن والكآبة ومني بالشجى والسآمة، وهل يسرّ بالفراق إلاّ الشامت الكاشح والمبغض غير الناصح…
وكذا الخبر في رواية الجلال السيوطي في كتاب (تاريخ الخلفاء) حيث قال:
«فلمّا مات معاوية بايعه ـ يعني يزيد ـ أهل الشام، ثمّ بعث إلى أهل المدينة من يأخذ له البيعة، فأبى الحسين وابن الزبير أن يبايعاه، وخرجا من ليلتهما إلى مكّة; فأمّا ابن الزبير فلم يبايع ولا دعا إلى نفسه، وأمّا الحسين فكان أهل الكوفة يكتبون إليه، يدعونه إلى الخروج إليهم زمن معاوية وهو يأبى، فلمّا بويع يزيد أقام على ما هو مهموماً، يجمع الإقامة مرّة ويريد المسير إليهم اُخرى.
فأشار عليه ابن الزبير بالخروج.
وكان ابن عبّاس يقول له: لا تفعل.
وقال له ابن عمر: لا تخرج، فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خيّره الله بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة وإنّك بضعة منه، ولا تنالها ـ يعني الدنيا ـ واعتنقه وبكى وودّعه، فكان ابن عمر يقول: غلبنا حسين بالخروج، ولعمري لقد رأى في أبيه وأخيه عبرة.
وكلّمه في ذلك أيضاً جابر بن عبدالله وأبو سعيد وأبو واقد الليثي وغيرهم فلم يطع أحداً منهم.
وصمّم على المسير إلى العراق، فقال له ابن عبّاس: والله إنّي لأظنّك ستقتل بين نسائك وبناتك كما قتل عثمان، فلم يقبل منه، فبكى ابن عبّاس وقال: أقررت عين ابن الزبير.
ولمّا رأى ابن عبّاس عبدالله بن الزبير قال له: قد أتى ما أحببت، هذا الحسين يخرج ويتركك والحجاز، ثمّ تمثّل:
يالك من قنبرة بمعمر *** خلا لك الجوّ فبيضي واصفري
ونقّري ما شئت أن تنقري»(2)
(1) إتحاف الورى بأخبار اُمّ القرى ـ حوادث السنة 60.
(2) تاريخ الخلفاء: 164 ـ 165.