بين عائشة وابن الزبير
وقد أساء ابن الزبير الأدب مع عائشة وتطاول عليها، حتّى نذرت أن تهجره ولا تكلّمه أبداً، وقد أخرج البخاري الخبر في كتاب الأدب من (الصحيح)(1).
وقال الحافظ السمهودي في (جواهر العقدين):
«وفي الصحيح أيضاً: قول عائشة: عليَّ نذر أنْ لا اُكلّم ابن الزبير أبداً. قال ابن عبدالبر: التقدير عليَّ نذر إنْ كلّمته. إنتهى. وهو موافق للرواية الاُخرى: لله عليّ نذر إنْ كلّمته، فالنذر معلَّق على كلامها له، لأنّها نذرت ترك كلامه، وجعلت الترك قربةً تلزم بالنذر. وقصّتها في ذلك أنّها رأت أنّ ابن الزبير قد ارتكب أمراً عظيماً حيث قال: أما والله لتنتهيّن عائشة عن بيع رباعها أو لأحجرنّ عليها، وكانت لا تمسك شيئاً ممّا جاءها من رزق بل تتصدّق به، فرأت أنّ قوله ذلك جرأة عليها وتنقيصاً لقدرها، بنسبتها إلى ارتكاب التبذير الموجب لمنعها من التصرّف، مع كونها اُم المؤمنين وخالته اُخت اُمّه، ولم يكن أحد عندها في منزلته، فرأت ذلك منه نوع عقوق، فجعلت مجازاته ترك مكالمته»(2).
ومن الغرائب: احتجاج بعض فقهاء القوم بهذه الزلّة الكبيرة الصّادرة من ابن الزبير، ولذا بادر ابن حزم إلى التشنيع عليه، فقال في (المحلّى):
«وأمّا الرواية عن ابن الزبير فطامّة الأبد، لا ندري كيف استحلّ مسلم أن يحتجّ بخطيئة ووهلة وزلّة كانت من ابن الزبير، والله تعالى يغفر له، إذ أراد مثله مع كونه من أصاغر الصحابة أنْ يحجر على مثل اُم المؤمنين، التي أثنى الله تعالى عليها أعظم الثناء في نصّ القرآن، وهو لا يكاد يتجزى منها في الفضل عند الله تعالى، وهذا خبر رويناه من طريق عبدالرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عوف بن الحارث ابن أخي عائشة اُم المؤمنين لاُمّها: إنّ عائشة اُم المؤمنين حدّثت أنّ عبدالله بن الزبير قال في بيع أو عطاء أعطته: لتنتهين عائشة أو لأحجرنّ عليها. فقالت عائشة: أو قال هذا؟ قالوا: نعم، فقالت عائشة: هو لله عليَّ نذر أنْ لا اُكلّم ابن الزبير كلمةً أبداً. ثمّ ذكر الحديث بطوله وتشفّعه إليها وبكاؤه لعبدالرحمن بن الأسود بن عبد يغوث والمسور بن مخرمة الزهريين، حتّى كلّمته، وأعتقت في نذرها أنْ لا تكلّمه أربعين رقبة.
قال أبو محمّد: قد بلغت به عائشة رضي الله عنها جمنج الإنكار حيث بلغته، فلا يخلو الأمر من أنْ يكون ابن الزبير أخطأ وأصابت هي وهو كذلك بلا شك، فلا يحتجّ بقول أخطأ فيه صاحبه، أو يكون ابن الزبير أصاب وأخطأت هي، ومعاذ الله من هذا ومن أنْ تكون اُم المؤمنين توصف بسفه وتستحق أن يحجر عليها، نعوذ بالله من هذا القول. فصحّ أنّ ابن الزير أخطأ في قوله»(3).
فمن كلام ابن حزم والسمهودي يفهم أنّ ما صدر من ابن الزبير بحقّ عائشة كان طعناً عظيماً وقدحاً جسيماً، يمنع منه الكتاب والسنّة، ويقبّحه العقل ويذمّ عليه العقلاء… فكيف يجوز هذا عندهم وهم لا يجوّزون صدور معشاره من أحد من الشيعة بالنسبة إلى عائشة؟
(1) صحيح البخاري 8: 25 كتاب الأدب ـ باب الهجرة….
(2) جواهر العقدين: 215 ـ 216.
(3) المحلّى في الفقه 8: 292 ـ 293.