بيعته ليزيد بن معاوية
لكن ابن عمر بايع يزيد بن معاوية، كما في كتابي (البخاري) و(مسلم)(1)وغيرهما من مصادر الحديث والتاريخ… بل لقد دافع عن ذلك وحمل أهله وولده والناس على البيعة… وإذا ثبت أنّه قد بايع ليزيد، فقد ثبت كفره بلا ريب، لأنّ الرضا بإمام باطل كفر، كما نصّ عليه أئمّة القوم… قال أبو شكور محمّد بن عبدالسعيد الكشفي الحنفي في (التمهيد في بيان التوحيد):
«ثمّ كلّ سؤال من جهة الخصم يكون مردوداً، لموافقة علي لأبي بكر، لأنّه وإنْ لم يبايعه فسكت ولم يخالفه، وقد بيّنّا أنّه بايعه بدليل ما ذكرنا، ولو لم يصحّ خلافة أبي بكر لا يكون إماماً حقّاً، لكان لا يجوز السكوت به والإغماض عنه، لأنّ من رضي بإمام باطل فإنّه يكفر».
هذا، وقد دافع بعض علماء الهند عن ابن عمر، بحمل بيعته ليزيد على التقيّة والإضطرار، لكنّهم غفلوا عمّا شنّع به أكابر طائفتهم على أهل الحق للقول بالتقيّة والعمل بها… لاسيّما في مقابلة القول بأنّ بيعة أميرالمؤمنين وأصحابه مع المشايخ كانت عن تقيّة واضطرار، فكيف يصحّ مع هذا حمل بيعة ابن عمر مع يزيد على التقيّة؟
وممّا يشهد بعدم كون بيعة عبدالله بن عمر هذه عن تقية: تعجّب الزهري من ذلك، فيما رواه عنه سبط ابن الجوزي حيث قال: «قال الزهري: والعجب أنّ عبدالله بن عمر وسعد بن أبي وقّاص لم يبايعا عليّاً، وبايعا يزيد ابن معاوية»(2).
ومن هنا، نجد أنّ بعض علماء الهند لمّا رأى ركاكة هذا العذر، التجأ إلى إنكار البيعة من أصلها… لكنّ بيعته له من الاُمور الثابتة غير القابلة للنفي والإنكار… كما أنّ موقفه من أهل المدينة وخلعهم يزيد بن معاوية مشهور ثابت:
قال ابن الملقّن في (شرح البخاري):
«بابٌ: إذا قال عند قوم شيئاً ثمّ خرج فقال بخلافه: الشرح: معنى الترجمة إنّما هو في خلع أهل المدينة ليزيد بن معاوية، ورجوعهم عن بيعته وما قالوا له، وقالوا بغير حضرته خلاف ما قالوا بحضرته، وذلك أنّ ابن عمر بايعه فقال عنده بالطاعة بخلافته، ثمّ خشي على بنيه وحشمه النكث مع أهل المدينة، حيث نكثوا بيعة يزيد، فوعظهم وجمعهم وأخبرهم أنّ النكث أعظم الغدر»(3).
وقال ابن حجر بشرحه:
«ووقع عند الإسماعيلي من طرق مؤمل بن إسماعيل، عن حمّاد بن زيد، في أوّله من الزيادة، عن نافع: أنّ معاوية أراد ابن عمر على أن يبايع ليزيد، فأبى وقال: لا اُبايع لأميرين، فأرسل إليه معاوية بمائة ألف درهم فأخذها، فدّس إليه رجلاً فقال له: ما يمنعك أن تبايع؟ فقال: إنّ ذاك لذاك، يعني عطاء ذلك المال لأجل وقوع المبايعة، إنّ ديني عندي إذاً لرخيص، فلمّا مات معاوية كتب ابن عمر إلى يزيد ببيعته، فلمّا خلع أهل المدينة، فذكره…»(4).
وقال ابن حجر في «باب ما كان من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم يواسي بعضهم بعضاً في الزراعة والثمرة» من كتاب المزارعة في شرح حديث نافع: «إنّ ابن عمر كان يكري مزارعه على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعمر وعثمان وصدراً من إمارة معاوية»:
«قوله: وصدراً من إمارة معاوية، أي خلافته، وإنّما لم يذكر ابن عمر خلافة عليّ، لأنّه لم يبايعه، لوقوع الاختلاف عليه، كما هو مشهور في صحيح الأخبار، وكان رأي ابن عمر أن لا يبايع لمن لم يجتمع عليه الناس، ولهذا لم يبايع أيضاً لابن الزبير ولا لعبدالملك، في حال اختلافهما، وبايع ليزيد بن معاوية، ثمّ لعبدالملك بن مروان بعد قتل ابن الزبير»(5).
وقال الشهاب القسطلاني:
«عن نافع مولى ابن عمر أنّه قال: لمّا خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية، وكان ابن عمر لمّا مات معاوية كتب إلى يزيد ببيعته…»(6).
ثمّ إنّهم رووا عن ابن عمر أنّه مدح يزيد في جمع من خلفائهم وقال: «كلّهم صالح لا يوجد مثله»… ومن رواته السيوطي في (تاريخ الخلفاء) وهذه عبارته:
«أخرج ابن عساكر عن عبدالله بن عمر قال: أبوبكر الصدّيق أصبتم اسمه، عمر الفاروق قرن من حديد أصبتم اسمه، ابن عفّان ذوالنّورين قتل مظلوماً يؤتى كفلين من الرّحمة، معاوية وابنه ملكا الأرض المقدّسة، والسّفاح وسلام ومنصور وجابر والمهدي والأمين وأمير العصب، كلّهم من بني كعب ابن لؤي، كلّهم صالح لا يوجد مثله. قال الذهبي: له طرق عن ابن عمر، ولم يرفعه أحد»(7).
فمن العجيب جدّاً، أنْ يمتنع ابن عمر عن البيعة لأميرالمؤمنين، ثمّ يبايع يزيد ويمدحه بمثل هذا الكلام؟
بل إنّه كان لا يربّع بالإمام عليه السّلام، كما هو ظاهر الحديث المتقدّم وصريح الحديث في (كنز العمّال) قال:
«عن عبدالله بن عمر قال: يكون على هذه الاُمّة إثنا عشر خليفة: أبوبكر الصدّيق أصبتم اسمه، عمر الفاروق قرن من حديد أصبتم اسمه، عثمان بن عفّان ذوالنّورين قتل مظلوماً اُوتي كفلين من الرحمة، ملك الأرض المقدّسة معاوية وابنه، ثمّ يكون السفّاح والمنصور وجابر والأمين وسلام وأمير العصب، لا يُرى مثله ولا يدرى مثله، كلّهم من بني كعب بن لؤي…».
هذا، ولا يخفى أنّه في بعض نسخ (الكتابين المذكورين) نقل هذا الكلام عن «عبدالله بن عمرو» بدلاً عن «عبدالله بن عمر»(8)، وسواء كان قائل هذا الكلام ابن عمر أو ابن عمرو بن العاص أو كلاهما، فإنّه يدلُّ على كفر قائله وضلاله.
(1) صحيح البخاري 9 : 72 كتاب الفتن ـ باب إذا قال عند قوم شيئاً ثمّ خرج فقال بخلافه ، صحيح مسلم 3 : 1478/1851 كتاب الإمارة الباب 13 .
(2) تذكرة خواص الاُمّة: 61.
(3) شرح صحيح البخاري ـ كتاب الفتن، باب: إذا قال عند قوم شيئاً…
(4) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 13: 59.
(5) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 5: 19.
(6) ارشاد الساري في شرح صحيح البخاري 10: 199.
(7) تاريخ الخلفاء: 167 ـ 168.
(8) كنز العمّال 11: 252/31421.