المعتبر في قبول الرواية حال الأداء
ثم إنّه قد تقرّر لدى علماء الفريقين، أنّ المعتبر في قبول الرواية حال الراوي في وقت الأداء، فإذا كان حاله سليماً في وقت الأداء تقبل روايته ولو كان قبل ذلك مقدوحاً أو خرج بعد ذلك عن الإستقامة… ولأجل التيقّن من هذا الذي ذكرته أنقل كلاماً لأحد أكابر أصحابنا، وكلاماً لأحد أكابر الأئمّة عند أهل السنّة.
أمّا من أصحابنا، فالشيخ بهاء الدين العاملي المتوفّى سنة 1031 وهو العالم النحرير الذي جاء مدحه في (ريحانة الألباء) لشهاب الدين الخفاجي ـ وهو شيخ مشايخ ولي الله والد صاحب التحفة ـ قائلاً: «لا يدرك بحر وصفه الإغراق، ولا تلحقه حركات الأفكار ولو كان في مضمار الدهر لها السباق، زيّن عبائره العلوم النقليّة والعقليّة، وملك بنقد ذهنه الجواهر السنيّة…»(1).
لقد قال شيخنا البهائي في كتاب (مشرق الشمسين) ما نصّه: «المعتبر حال الراوي وقت الأداء لا وقت التحمّل، فلو تحمّل الحديث طفلاً أو غير إمامي أو فاسقاً، ثمّ أدّاه في وقت يظنّ أنّه كان مستجمعاً فيه لشرائط القبول قبل…
(قال): المستفاد من تصفّح كتب علمائنا المؤلّفة في السير والجرح والتعديل: إنّ أصحابنا الإماميّة ـ رحمهم الله ـ كان اجتنابهم عن مخالطة من كان من الشيعة على الحق أوّلاً، ثمّ أنكر إمامة بعض الأئمّة عليهم السّلام في أقصى المراتب، وكانوا يحترزون عن مجالستهم والتكلّم معهم، فضلاً عن أخذ الحديث عنهم، بل كان تظاهرهم بالعداوة لهم أشدّ من تظاهرهم بها للعامّة…
(قال): فإذا قبل علماؤنا ـ سيّما المتأخّرون منهم ـ رواية رواها رجل من ثقات أصحابنا عن أحد هؤلاء، وعوّلوا عليها ومالوا إليها وقالوا بصحّتها، مع علمهم بحاله، فقبولهم لها وقولهم بصحّتها لابدّ من ابتنائه على وجه صحيح لا يتطرّق به القدح إليهم، ولا إلى ذلك الرجل الثقة الراوي عمّن هذا حاله، كأنْ يكون سماعه منه قبل عدوله عن الحق وقوله بالوقف، أو بعد توبته ورجوعه إلى الحق، أو أنّ النقل إنّما وقع من أصله الذي ألّفه واشتهر عنه قبل الوقف، أو من كتابه الذي ألّفه بعد الوقف، ولكنّه أخذ ذلك الكتاب عن شيوخ أصحابنا الذين عليهم الإعتماد…» ثمّ ذكر أمثلة لذلك واستشهد بكلمات أعلام الطائفة(2).
وأمّا من أئمّة السنيّة، فقال النووي في (شرح صحيح مسلم) «فصل ـ في حكم المختلط: إذا خلط الثقة ـ لاختلال ضبطه بخرف أو هرم أو لذهاب بصره أو نحو ذلك ـ قبل حديث من أخذ عنه قبل الإختلاط، ولا يقبل حديث من أخذ بعد الإختلاط، أو شككنا في وقت أخذه» ثمّ ذكر بعض المخلّطين… ثمّ قال: «واعلم: أنّ ما كان من هذا القبيل محتجّاً به في الصحيحين، فهو ممّا علم أنّه اُخذ قبل الاختلاط…»(3).
وعلى الجملة، فقد عرفت أنّ رواية أصحابنا عن أبي الجارود كانت قبل ضلالته، وأنّ المعتبر في قبول الرواية هو حال وقت الأداء… فسقط الطّعن في تفسير القمي، لكون أبي الجارود في أسانيده.
(1) وتوجد ترجمته في: خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر 3: 440 ـ 445.
(2) مشرق الشمسين: 7 ـ 8 ط مع الحبل المتين له ـ حجري .
(3) المنهاج ـ شرح صحيح مسلم بن الحجاج 1: 34 وانظر: تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي 2: 323 ـ 331.