الفخر الرازي
وأمّا الفخر الرازي، فإنّه وإنْ كان من العلماء الأعلام وتفسيره في غاية الشهرة، لكنّ السّيوطي تكلّم عليه، ونقل بعض الكلام فيه، في (الإتقان).
أمّا الذهبي، فقد قال في (الميزان):
«الفخر ابن الخطيب، صاحب التصانيف، رأس في الذكاء والعقليّات، لكنّه عريّ من الآثار، وله تشكيكات على مسائل من دعائم الدين تورث حيرة. نسأل الله أن يثبّت الإيمان في قلوبنا، وله كتاب السرّ المكتوم في مخاطبة النجوم، سحر صريح، فلعلّه تاب من تأليفه إنْ شاء الله»(1).
وابن تيميّة ذكر الرازي في عداد الجبريّة، وهذه عبارته:
«ثمّ المثبتون للصّفات، منهم: من يثبت الصّفات المعلومة بالسمع كما يثبت الصفات المعلومة بالعقل، وهذا قول أهل السنّة الخاصّة: أهل الحديث ومن وافقهم، وهو قول أئمّة الفقهاء وقول أئمّة الكلام من أهل الإثبات، كأبي محمّد بن كلاب وأبي العبّاس القلانسي وأبي الحسن الأشعري وأبي عبدالله ابن مجاهد وأبي الحسن الطبري والقاضي أبي بكر الباقلاني، ولم يختلف في ذلك قول الأشعري وقدماء أصحابه. لكن المتأخرين من أتباعه كأبي المعالي وغيره لا يثبتون إلاّ الصّفات العقليّة.
وأمّا الجبريّة، فمنهم من ينفيها ومنهم من يتوقّف فيها، كالرازي والآمدي وغيرهما، ونفاة الصفات الجبريّة، منهم من يتأوّل نصوصها ومنهم من يفوّض معناها إلى الله»(2).
وجاء ابن حجر في (لسان الميزان) وفصّل الكلام حول الرازي بعد كلام الذهبي، وهذه عبارته:
«الفخر ابن الخطيب صاحب التصانيف، رأس في الذكاء والعقليّات لكنّه عريّ من الآثار، وله تشكيكات على مسائل من دعائم الدين تورث حيرة، نسأل الله أن يثبّت الإيمان في قلوبنا، وله كتاب السرّ المكتوم في مخاطبة النجوم، سحر صريح، فلعلّه تاب من تأليفه إن شاء الله، إنتهى.
وقد عاب التاج السبكي على المصنّف ذكره هذا الرجل في هذا الكتاب وقال: إنّه ليس من الرواة، وقد تبرّء المصنّف من الهوى والعصبيّة في هذا الكتاب فكيف ذكر هذا وأمثاله ممّن لا رواية لهم كالسيف الآمدي، ثمّ اعتذر عنه بأنّه يرى أنّ القدح في هؤلاء من الديانة، وهذا بعينه التعصّب في المعتقد، والفخر كان من أئمّة الاُصول، وكتبه في الأصلين شهيرة سائرة، وله ما يقبل وما يرد، وقد ترجم له جماعة من الكبار بما ملخّصه: أنّه ولد سنة 543 واشتغل على والده، وكان من تلامذة البغوي، ثمّ اشتغل على الكمال السمناني، وتمهّر في عدّة علوم، وعقد مجلس الوعظ، وكان إذا وعظ يحصل له وجد زائد، ثمّ أقبل على التصنيف، فصنّف: التفسير الكبير، والمحصول في اُصول الفقه، والمعالم، والمطالب العالية والأربعين، والخمسين، والملخّص، والمباحث المشرقيّة، وطريقة في الخلاف، ومناقب الشافعي.
وكان في أوّل أمره فقيراً، ثمّ اتفق أنّه صاهر تاجراً متموّلاً وله ولدان فزوّجهما ابنتيه، ومات التاجر، فتقلّب الفخر في ذلك المال وصار من رؤساء ذلك الزّمان، يقوم على رأسه خمسون مملوكاً بمناطق الذهب وحُلَل الوشي; قاله ابن الرسب في تاريخه. قال: وكانت له أوراد من صلاة وصيام لا يخلّ بها، وكان مع تبحّره في الاُصول يقول: من التزم دين العجائز فهو الفائز، وكان يعاب بإيراد الشبه الشديدة ويقصّر في حلّها».
«وقد ذكره ابن دحية بمدح وذمّ، وذكره أبو شامة فحكى عنه أشياء رديّة، وكانت وفاته بهراة، يوم عيد الفطر سنة ست وستمائة.
ورأيت في الأكسير في علم التفسير للنجم الطوفي ما ملخّصه: ما رأيت في التفاسير، أجمع لغالب علم التفسير من القرطبي، ومن تفسير الإمام فخر الدين، إلاّ أنّه كثير العيوب، فحدّثني شرف الدين النصيبي عن شيخه سراج الدين السرمياحي المصري أنّه صنّف كتاب المآخذ في مجلّدين، بيّن فيهما ما في تفسير الفخر من الزيف والبهرج، وكان ينقم عليه كثيراً ويقول: يورد شبه المخالفين في المذهب والدين على غاية ما يكون من التحقيق… قال الطوفي: ولعمري إنّ هذا دأبه في كتبه الكلاميّة والحكميّة حتّى اتّهمه بعض النّاس، ولكنّه خلاف ظاهر حاله، لأنّه لو كان اختار قولاً أو مذهباً ما كان عنده من يخاف منه حتّى يتستّر عنه، ولعلّ سببه أنّه كان يستفرغ قواه في تقرير دليل الخصم، فإذا انتهى إلى تقرير دليل نفسه لا يبقى عنده شيء من القوى، ولا شكّ أنّ القوى النفسانيّة تابعة للقوى البدنيّة، وقد صرّح في مقدّمة نهاية العقول أنّه يقرّر مذهب خصمه تقريراً لو أراد خصمه أن يقرّره لم يقدر على الزيادة على ذلك.
وذكر ابن خليل السكوني في كتابه الرد على الكشّاف: أنّ ابن الخطيب قال في كتبه في الاُصول: أنّ مذهب الجبر هو الصحيح، وقال بصحّة بقاء الأعراض وبنفي صفات الله الحقيقيّة، ويزعم أنّها مجرّد نسب وإضافات كقول الفلاسفة، وسلك طريق أرسطو في دليل التمانع، ونقل عن تلميذه التاج الأرموي أنّه نصر كلامه، فهجره أهل مصر وهمّوا به فاستتر، ونقلوا عنه أنّه قال عندي كذا وكذا مائة شبهة على القول بحدوث العالم، ومنها ما قاله شيخه ابن الخطيب في آخر الأربعين، والمتكلّم يستدلّ على القدم بوجوب تأخّر الفعل ولزوم أوليّته، والفيلسوف يستدلّ على قدمه باستحالة تعطّل الفاعل عن أفعاله.
وقال في شرح الأسماء الحسنى: أنّ من أَخَّرَ عقاب الجاني مع علمه بأنّه سيعاقبه فهو الحقود. وقد تعقّب بأنّ الحقود من أخّر مع العجز، أمّا مع القدرة فهو الحكيم، والحقود إنّما يعقل في حقّ المخلوقين دون الخالق بالإجماع.
ثمّ أسند عن ابن الطبّاخ: أنّ الفخر كان شيعيّاً، يقدّم محبّة أهل البيت كمحبّة الشيعة، حتّى قال في بعض تصانيفه: وكان علي شجاعاً بخلاف غيره، وعاب عليه تسميته لتفسيره مفاتيح الغيب ولمختصره في المنطق بالآيات البيّنات، وتقريره لتلامذته في وصفه: بأنّه الإمام المجتبى، استاذ الدنيا، أفضل العالم، فخر ابن آدم، حجّة الله على الخلق، صدر صدور العرب والعجم. هذا آخر كلامه»(3)إنتهى.
وقال الشيخ عبدالوهّاب الشعراني في (إرشاد الطالبين إلى مراتب العلماء الكاملين):
«وقد طلب الشيخ فخرالدين الرازي الطريق إلى الله تعالى، فقال له الشيخ نجم الدين الكبرى: لا تطيق مفارقة صنمك الذي هو علمك، فقال: يا سيّدي، لابدّ إن شاء الله تعالى، فأدخله الشيخ الخلوة وسلبه جميع ما معه من العلوم، فصاح في الخلوة بأعلى صوته: لا اُطيق. فأخرجه وقال: أعجبني صدقك وعدم نفاقك».
(1) ميزان الاعتدال 3: 340/6686.
(2) منهاج السنّة 2: 222 ـ 223.
(3) لسان الميزان 5: 430 ـ 435/6571.