ابن شهاب الزّهري
فمنهم: الزّهري… وصفه الشيخ عبدالحق الدهلوي في كتاب (تحصيل الكمال في أسماء الرجال) بـ«الإمام، أحد الفقهاء والمحدّثين، والعلماء الأعلام من التابعين بالمدينة، المشار إليه في فنون الشريعة»(1) وإليه نسب الأعور الواسطي تفسير أهل السنّة، نافياً رجوعهم في تفسير القرآن إلى أميرالمؤمنين(2)…
إلاّ أنّ الدهلوي قال بعد ذلك بترجمته:
«ويقال: إنّه قد ابتلي بصحبة الاُمراء بقلّة الديانة، لضرورات عرضت له، وكان أقرانه من العلماء والزهّاد يأخذون عليه وينكرون ذلك منه، وكان يقول: أنا شريك في خيرهم دون شرّهم، فيقولون: ألا ترى ما هم فيه وتسكت؟».
وهنا يناسب أن نورد كلام ابن الجوزي في ذمّ صحبة الاُمراء والسّلاطين، فإنّه قال في (تلبيس إبليس):
«ومن تلبيس إبليس على الفقهاء: مخالطتهم للاُمراء والسلاطين ومداهنتهم وترك الإنكار عليهم، مع القدرة على ذلك، وربّما رخّصوا لهم ما لا رخصة فيه، لينالوا من دنياهم، فيقع بذلك الفساد لثلاثة: الأوّل: الأمير، فيقول: لولا أنّي على صواب لأنكر عليَّ الفقيه، وكيف لا أكون مصيباً وهو يأكل من مالي؟ والثاني: العامي، فإنّه يقول: لا بأس بهذا الأمير ولا بماله ولا بأفعاله، فإنّ فلاناً الفقيه لا يزال عنده. والثالث: الفقيه، يفسد دينه بذلك»(3).
وقال الغزالي في (إحياء العلوم) في علامات علماء الآخرة:
«ومنها: أن يكون منقبضاً عن السلاطين، فلا يدخل عليهم البتّة، مادام يجد إلى الفرار عنهم سبيلاً، بل ينبغي أن يحترز من مخالطتهم وإن جاؤوا إليه، فإنّ الدنيا حلوة خضرة وزمامها بأيدي السلاطين، والمخالط لهم لا يخلو عن تكلّف في طلب مرضاتهم واستمالة قلوبهم، مع أنّهم ظلمة، ويجب على كلّ متديّن الإنكار عليهم وتضييق صدورهم بإظهار ظلمهم وتقبيح فعلهم، فالداخل عليهم إمّا أن يلتفت إلى تجهلهم، فيزدري نعمة الله عليه، أو يسكت عن الإنكار عليهم، فيكون مداهناً لهم، أو يتكلّف في كلامه كلاماً لمرضاتهم وتحسين أحوالهم، وذلك هو البهت الصريح، أو يطمع في أن ينال من دنياهم، وذلك هو السحت، وسيأتي في كتاب الحلال والحرام ما يجوز أن يؤخذ من أموال السلاطين وما لا يجوز من الأدرار والجوائز وغيرها.
وعلى الجملة، فمخالطتهم مفتاح الشرّ، وعلماء الآخرة طريقتهم الإحتياط، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: من بدى جفا، يعني من سكن البادية جفا، ومن اتّبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن.
وقال صلّى الله عليه وسلّم: سيكون عليهم اُمراء تعرفون منه وتنكرون، فمن أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع أبعده الله تعالى. قيل: أفلانقاتلهم؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: لا، ما صلّوا.
وقال سفيان: في جهنّم واد، لا يسكنه إلاّ القرّاء الزائرون للملوك.
وقال حذيفة رضي الله عنه: إيّاكم ومواقف الفتن. قيل: وما هي؟ قال: أبواب الاُمراء، يدخل أحدكم على الأمير، فيصدّقه بالكذب ويقول له ما ليس فيه.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: العلماء اُمناء الرسل على عباد الله تعالى، ما لم يخالطوا السلطان، فإذا فعلوا ذلك فقد خانوا الرسل، فاحذروهم واعتزلوهم.
وقيل للأعمش: قد أحييت العلم لكثرة من يأخذه عنك. فقال: لا تعجلوا، ثلث يموتون قبل الإدراك، وثلث يلزمون أبواب السلاطين فهم شرّ الخلق، والثلث الباقي لا يفلح منهم إلاّ القليل.
ولذلك قال سعيد بن المسيّب: إذا رأيتم العالم يغشى الاُمراء فاحترزوا منه، فإنّه لصّ.
وقال الأوزاعي: ما من شيء أبغض إلى الله عزّ وجلّ من عالم يزور عاملاً، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: شرار العلماء الذين يأتون الاُمراء، وخيار الاُمراء الذين يأتون العلماء.
وقال مكحول الدمشقي: من تعلّم القرآن وتفقّه في الدين ثمّ أصحب السلطان تملّقاً إليه وطمعاً في يديه، خاض في بحر من نار جهنّم بعدد خطاه.
وقال سحنون: ما أقبح بالعالم أن يؤتى إلى مجلسه فلا يوجد فيُسئل عنه فيقال: إنّه عند الأمير.
قال: وكنت أسمع أنّه يقال: إذا رأيتم العالم يحبّ الدنيا فاتّهموه على دينكم، حتّى جرّبت ذلك، إذ ما دخلت قط على السلطان إلاّ ما رأيت نفسي بعد الخروج، وأنتم تعلمون وترون ما ألقاه به من الغلظة والفظاظة وكثرة المخالفة لهواه ولوددت أن أنجو من الدخول كفافاً، مع أنّي لا آخذ منه شيئاً ولا أشرب لهم شربة ماء.
قال: وزماننا هذا شرّ من علماء بني إسرائيل، يخبرون السلطان بالرّخص وبما يوافق هواه، ولو أخبروه بالذي عليه وفيه نجاته لاستثقلهم، فكره دخولهم عليه، وكان ذلك نجاة لهم عند ربّهم.
وقال الحسن: كان فيمن كان قبلكم رجل له قدم في الإسلام وصحبة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ـ قال عبدالله بن المبارك: عنى به سعد بن أبيوقاص رضي الله عنه ـ وكان يغشى السلاطين، فقعد عنهم، فقال له بنوه: يأتي هؤلاء من ليس هو مثلك في الصحبة والقدم في الإسلام، فلو أتيتهم. فقال: بني! إنّ الدنيا جيفة وقد أحاط بها قوم، والله لئن استطعت لا اُشاركهم فيها. قالوا: يا أبانا! إذاً تهلك هزلاً. قال: يا بني! لأن أموت مؤمناً مهزولاً، أحبّ إليّ من أن أموت منافقاً سميناً.
قال الحسن رحمه الله تعالى: خصمهم والله، إذ علم أنّ التراب يأكل اللّحم والسمن دون الإيمان، وفي هذا إشارة إلى أنّ الدخول على السلطان لا يسلم فيه أحد من النفاق البتّة، وهو مضاد للإيمان.
وقال أبوذر لسلمة: يا سلمة! لا تغش أبواب السلاطين، فإنّك لا تصيب من دنياهم شيئاً إلاّ أصابوا من دينك أفضل منه.
وهذه فتنة عظيمة للعلماء وذريعة صعبة للشيطان عليهم، لاسيّما من له لهجة مقبولة وكلام حلو، إذ لا يزال الشيطان يلقي إليه أنّ في وعظك لهم ودخولك عليهم ما يزجرهم عن الظلم ويقيم شعائر الشرع، إلى أن يخيّل إليه أنّ الدخول عليهم من الدين، ثمّ إذا دخل لم يلبث أن يتلطّف في الكلام ويداهن، ويخوض في الثناء والإطراء، وفيه هلاك الدين.
وكان يقال: العلماء إذا علموا عملوا، فإذا عملوا شغلوا، فإذا شغلوا فقدوا، فإذا فقدوا طلبوا، فإذا طلبوا هربوا.
وكتب عمر بن عبدالعزيز إلى الحسن رحمهما الله تعالى: أمّا بعد; فأشر علَيّ بأقوام أستعين بهم على أمر الله تعالى. فكتب إليه: أمّا أهل الدين فلن يريدوك، وأمّا أهل الدنيا فلن تريدهم، ولكن عليك بالأشراف، فإنّهم يصونون شرفهم أن يدنّسوه بالخيانة.
هذا في عمر بن عبدالعزيز، وكان أزهد أهل زمانه، فإذا كان شرط أهل الدين الهرب منه، فكيف يستتب طلب غيره ومخالطته، ولم يزل السلف العلماء مثل الحسن والثوري وابن المبارك والفضيل وإبراهيم بن أدهم ويوسف بن أسباط يتكلّمون في علماء الدنيا من أهل مكّة والشام، إمّا لميلهم إلى الدّنيا أو لمخالطتهم السلاطين، حتّى قال بعضهم لو قيل: من أحمق الناس، لأخذت بيد القاضي وقلت: هذا»(4).
(1) تحصيل الكمال = رجال المشكاة.
(2) رسالة الأعور الواسطي ـ مخطوط.
(3) تلبيس ابليس: 140، مع بعض الاختلاف في الألفاظ.
(4) إحياء علوم الدين 1: 68 ـ 69.