إنكاره المعوّذتين
«ومن زعم أنّ المعوّذتين ليستا من القرآن، فقد ذكر في فتاوى أبي الليث أنّه لا يكفر، فإنّه روي عن ابن مسعود واُبي بن كعب رضي الله عنهما أنّهما ليستا من القرآن».
فاُبيّ على هذا القول أيضاً، وأبو الليث وإنْ كان قد أفتى بعدم الكفر، فقد سبق أنّ جماعة من الأكابر يكفّرون المنكر، بل تقدّم عن النووي أنّه إجماع المسلمين…
بل إنّ القوم يرون بأنّ أدنى المخالفة لمصحف عثمان تستوجب الهتك والتفسيق، والتضليل والتعزير، كما وقع بحقّ ابن شنبوذ:
قال ياقوت الحموي في (معجم الاُدباء) بترجمة محمّد بن أحمد بن أيّوب بن الصّلت بن شنبوذ:
«حدّث إسماعيل بن علي الخطيبي في كتاب التاريخ قال: واشتهر ببغداد أمر رجل يعرف بابن شنبوذ، يقرئ النّاس، ويقرأُ في المحراب بحروف يخالف فيها المصحف، فيما يروى عن عبدالله بن مسعود واُبي بن كعب وغيرهما، ممّا كان يقرأ به قبل المصحف الذي جمعه عثمان، ويتتبّع الشواذ فيقرأ بها ويجادل، حتّى عظم أمره وفحش وأنكره النّاس، فوجّه السلطان وقبض عليه في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، وحمل إلى دار الوزير محمّد ابن مقلة، واُحضر القضاة والفقهاء والقرّاء، وناظره الوزير بحضرته، فأقام على ما ذكر عنه ونصره، واستنزله الوزير عن ذلك فأبى أن ينزل عنه، أو يرجع عمّا يقرأ به من هذه الشواذ المنكرة التي تزيد على المصحف العثماني، فأنكر ذلك جميع من حضر المجلس وأشاروا بعقوبته ومعاملته بما يضطرّه إلى الرجوع، فأمر بتجريده وإقامته بين الخبّازين، وأمر بضربه بالدرّة على قفاه، فضرب نحو العشرة ضرباً شديداً، فلم يصبر واستغاث وأذعن بالرجوع والتوبة، فخلّى عنه».
«قرأت في كتاب ألّفه القاضي أبو يوسف عبدالسَّلام القزويني، سمّاه: أفواج القرّاء، قال: كان ابن شنبوذ أحد القرّاء المتنسّكين، وكان يرجع إلى ورع، ولكنّه كان يميل إلى الشواذّ ويقرأ بها، وربّما أعلن ببعضها في بعض صلواته التي يجهر فيها بالقراءة، وسمع ذلك منه، وأنكر عليه فلم ينته للإنكار.
فقام أبوبكر ابن مجاهد فيه حقّ القيام وأشهر أمره، ورفع حديثه إلى الوزير في ذلك الوقت، وهو أبو علي ابن مقلة، فأخذ وضرب أسواطاً زادت على العشرة ولم تبلغ العشرين، وحبس واستتيب فتاب وقال: إنّي قد رجعت عمّا كنت أقرأ به، ولا اُخالف مصحف عثمان، ولا أقرأ إلاّ بما فيه من القراءة المشهورة.
وكتب عليه بذلك الوزير أبو علي محضراً بما سمع من لفظه، وأمره أن يكتب في آخره بخطّه، وكان المحضر بخطّ أبي الحسين أحمد بن محمّد بن ميمون، وكان أبوبكر ابن مجاهد تجرّد في كشفه ومناظرته فانتهى أمره إلى أن خاف على نفسه من القتل.
وقام أبو أيّوب السمسار في إصلاح أمره، وسأل الوزير أباعلي أن يطلقه وأن ينفذه إلى داره مع أعوانه بالليل خيفة عليه لئلاّ يقتله العامّة، ففعل ذلك، ووجّه إلى المدائن سرّاً مدّة شهرين، ثمّ دخل بيته ببغداد مستخفياً من العامّة»(1).
(1) معجم الادباء 17: 168 ـ 171/57.