أوّل شهادة زور في الإسلام
إنّ أوّل ما نذكره من مطاعن الرجل وقبائحه: كذبه وإقامته شهادة زور في قضيّة كلاب الحوأب، وذلك أنّه لمّا وصلت عائشة ـ في مسيرها إلى البصرة تقود الجيوش من أجل قتال علي عليه السلام ـ إلى منطقة الحوأب ونبحتها كلابها، تذكّرت قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأرادت الرجوع إلى الحجاز، فرأى ابن الزّبير أنّها إنْ رجعت انكسر جيشهم وخسروا المعركة، فجاء وحلف بأنّ هذا المكان ليس الحوأب، وأقام شهوداً على ذلك أيضاً، فكانت أوّل شهادة زور في الإسلام، وقد قال رسول الله: من سنّ سنّةً سيّئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة… وهكذا انخدعت عائشة وواصلت سيرها، ووقعت الحرب واُريقت الدماء وهتكت الأعراض… كما هو مثبت في كتب التاريخ…
ونحن نكتفي هنا بإيراد بعض الأخبار في كذب ابن الزبير وشهادته الكاذبة:
قال السمعاني(1):
«وورد في حديث عصام بن قدامة، عن عكرمة، عن ابن عبّاس: أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لنساءه: ليت شعري أيّتكنّ صاحبة الجمل الأدبب، وقيل: الأحمر، تنبحها كلاب الحوأب.
وروى إسماعيل بن أبي خالد كذلك، عن قيس بن أبي حازم عن عائشة: أنّها مرّت بماء، فنبحتها كلاب الحوأب، فسألت عن الماء، فقالوا: هذا ماء الحوأب، والقصّة في ذلك:
أنّ طلحة والزبير بعد قتل عثمان وبيعة علي، خرجا إلى مكّة، وكانت عائشة حاجّة تلك السنة، بسبب اجتماع أهل الفساد والعيث من البلاد بالمدينة لقتل عثمان، خرجت عائشة هاربة من الفتنة، فلمّا لحقها طلحة والزبير حملاها إلى البصرة في طلب دم عثمان من علي رضي الله عنه، وكان ابن الزبير عبدالله ابن اُختها أسماء ذات النطاقين، فلمّا وصلت عائشة رضي الله عنها معهم إلى هذا الماء نبحت الكلاب عليها، فسألت عن الماء واسمه، فقيل لها: الحوأب، فتذكّرت قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: أيّتكنّ ينبح عليها كلاب الحوأب، فتوقّفت وعزمت على الرجوع، فدخل عليها ابن اُختها ابن الزبير وقال: ليس هذا ماء الحوأب، حتّى قيل أنّه حلف على ذلك وكفّر عن يمينه والله أعلم، ويمّمت عائشة إلى البصرة وكانت وقعة الجمل المعروفة»(2).
وقال قاضي القضاة محبّ الدين أبوالوليد محمّد بن محمّد بن الشحنة الحنفي الحلبي(3):
«في سنة ست وثلاثين: أرسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى البلاد عمّاله، فبعث عمارة بن شهاب إلى الكوفة، وكان من المهاجرين، وولّى عثمان بن حنيف الأنصاري البصرة، وعبيدالله بن عبّاس اليمن، وقيس بن سعد الأنصاري مصر، وسهل بن حنيف الأنصاري الشام، فرجع من الطريق لمّا سمع بعصيان معاوية، وكذلك عمارة لقيه طلحة بن خويلد الذي كان ادّعى النبوّة في خلافة أبي بكر رضي الله عنه فقال له: إن أهل الكوفة لا يستبدلون بأبي موسى الأشعري، فرجع، ولمّا وصل عبيدالله إلى اليمن خرج الذي كان بها من قبل عثمان ـ وهو يعلى بن منبّه ـ بما بها من الأموال إلى مكّة، وصار مع عائشة وطلحة والزبير، وجمعوا جمعاً عظيماً وقصدوا البصرة، ولم يوافقهم عبدالله بن عمر، وأعطى يعلى بن منبّه لعائشة رضي الله عنها جملاً كان اشتراه بمائة دينار اسمه عسكر، وقيل بثمانين، وركبته، ومرّوا بمكان اسمه الحوأب، فنبحتهم كلابه.
فقالت عائشة: أيّ ماء هذا؟
فقيل لها: هذا ماء الحوأب، فصرخت وقالت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول ـ وعنده نساؤه ـ : ليت شعري أيّتكنّ تنبحها كلاب الحوأب، ثمّ ضربت عضد بعيرها فأناخته وقالت: ردّوني، فأقاموا يوماً وليلة.
فقال لها عبدالله بن الزبير: إنّه كذب، ليس هذا ماء الحوأب.
ولم يزل بها وهي تمتنع، فقال: النجا النجا، فقد أدرككم علي.
فارتحلوا فوصلوا البصرة»(4).
وقال ابن قتيبة في كتاب (الإمامة والسياسة):
«فلمّا انتهوا إلى ماء الحوأب في بعض الطريق ومعهم عائشة، نبحها كلاب الحوأب، فقالت لمحمّد بن طلحة: أيّ ماء هذا؟ قال: هذا ماء الحوأب. فقالت: ما أراني إلاّ راجعة. قال: ولِمَ؟ قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لنسائه: كأنّي بإحداكنّ قد نبحها كلاب الحوأب، وإيّاك أن تكوني هي أنت يا حميراء، فقال لها محمّد بن طلحة: تقدّمي ـ رحمك الله ـ ودعي هذا القول.
وأتى عبدالله بن الزبير، فحلف لها بالله لقد خلّفته أوّل الليل، وأتاها ببيّنة زور من الأعراب، فشهدوا بذلك»(5).
(1) قال الذهبي: «الإمام الحافظ الكبير الأوحد الثقة، محدّث خراسان، أبو سعد عبدالكريم… السمعاني…» وأرخ وفاته بسنة 562. سير أعلام النبلاء 20: 456.
(2) الأنساب 2: 286.
(3) المتوفّى سنة 815 توجد ترجمته في: الضوء اللامع 10: 3 وشذرات الذهب 7: 113.
(4) روضة المناظر في علم الأوائل والأواخر، حوادث السنة 36.
(5) الإمامة والسياسة: 63.