الجبر والإختيار
هل أفعال العباد واقعة بقدرة الباري وحدها ؟
قد نسب هذه العقيدة إلى الأشاعرة علماء أهل السنّة وانتقدها بعضهم:
قال الشيخ كمال الدين السهالي ـ من كبار علماء الهند ـ في كتاب (العروة الوثقى) في مسألة الجبر والإختيار:
«فاعلم إنّ هاهنا مذاهب:
الأوّل: مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري من الشافعيّة: إنّ أفعال العباد واقعة بقدرته تعالى وحدها، وليس لهم تأثير، بل الله سبحانه أجرى عادته بأن يخلقها في العبد عندما كسبها، والمعني بكسب العبد لفعله مقارنته لقدرته وإرادته، وإنّما قدرته وإرادته منه تعالى كسائر مخلوقاته، فرجع قولهم إلى وجود القدرة الوهميّة مع الفعل، ولا مدخل للعبد في فعله إلاّ كونه محلاًّ له; فالفعل مخلوق الله تعالى إبداعاً وإحداثاً مكسوب العبد فقط.
الثاني: مذهب أبي منصور الماتريدي من الحنفيّة، وهو بعينه مذهب الأشعري إلاّ أنّهم قالوا: الكسب صرف القدرة إلى العزم المصمّم للفعل، فقالوا: إنّ للقدرة الكاسبة تأثيراً في العزم المذكور، ويخلق الله تعالى الفعل عقيبه بالعادة.
فقال بعضهم: العزم من الأحوال وليس بموجود، فإحداثه ليس بخلق والإحداث أهون من الخلق، فحينئذ، لا حاجة إلى تخصيص النصوص الدالّة على عموم الخلق منه تعالى، نحو ( الله خالق كلّ شيء ) و ( خلقكم وما تعملون ).
وقال بعضهم: بل موجود، فيجب التخصيص بالعقل، لأنّه أدنى ما يتحقّق به فائدة خلق القدرة، ويصحّ اتّجاه التكليف شرطاً.
الثالث: مذهب المعتزلة، وهو أنّها واقعة بقدرة العبد وحدها على الاستقلال.
والرابع: ما قال جماعة أنّها بالقدرتين معاً.
والخامس: مذهب الحكماء وإمام الحرمين وأبي الحسين: أنّها واقعة على سبيل الوجوب، بقدرة يخلقها الله تعالى في العبد إذا قارنت الشرائط وارتفع الموانع، وليس ببعيد، لكنّه راجع بالأخرة إلى مذهب المعتزلة كما يظهر بالتأمّل.
وهاهنا مذهب سادس، وهو مذهب الجهميّة وهو: أنّه لا قدرة للعبد ولا دخل له أصلاً، بل هو كالجماد، فمع أنّه سفسطة يلزم عدم اتجاه التكاليف الشرعيّة، فإنّ العقل يقطع بامتناع تعلّق العقاب بالفعل الواجب أو الممتنع من الفاعل، بل يلزم نسبة الظلم إليه، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً و ( إنّ الله ليس بظلاّم للعبيد ) و ( لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها ).
والمذهب الرابع يوجب توارد المؤثّرين المتلازمين على أثر واحد، إن أرادوا أنّ القدرتين مستقلّتان في التأثير، وإن أرادوا أنّ أحداهما مستقلّة بالفاعليّة والاُخرى من الشرائط، فيرجع إلى مذهب المعتزلة أو أحد الأوّلين.
إحتجّت المعتزلة: تارة بالنصوص الدالّة على عموم نسبة الخلق إليه تعالى وقد مرّ، وتارة: بأنّه لولا استقلال العبد في أفاعيله، لبطل التكليف بالأمر والنهي، ولم يصحّ الثواب والعقاب والمدح والذم، بل ينتفي فائدة البعثة، لأنّ العبد حينئذ إمّا لا دخل له أصلاً، فيرجع إلى مذهب الجبريّة، وإمّا له دخل ناقص باعتبار أنّه محلّ القدرة الغير المؤثّرة التي خلق الله تعالى الفعل فيه مقارناً إيّاها، فمناط ذلك الفعل وموجده وخالقه ليس إلاّ هو، فإنّما عاقب على ما خلقه، فذلك أيضاً يوجب تلك النسبة الباطلة.
والحلّ عنها على طريق الحنفيّة: إنّ العبد لمّا كان كاسباً لفعله كما عرفت وسيجيء تحقيقه كما هو، وأجرى الله عادته أن يخلق الفعل عقيبه ولا يخلق عند عدم كسبه، فذلك مناط العقاب، ولا يلزم إذن فساد اتّجاه التكليف، ومن هاهنا صحّ انتساب أفعال العباد إليهم، وذلك هو المناط في اللغة والعرف، لا يوجب أن يكون الفاعل خالقاً لفعله، نعم، يلزم الأشاعرة القائلين بالقدرة الوهميّة تلك النسبة الباطلة، ولذلك قيل إنّها كفؤ للجبر».
فقد صرّح بلزوم الظلم على مذهب الأشاعرة.
وقال أيضاً:
«ولابدّ هاهنا من تمهيد مقدّمات:
منها: إنّ حسن الأفعال وقبحها عقلي، على المذهب المنصور، وهو مذهب أبي منصور الماتريدي، بناء على بطلان الترجيح بلا مرجّح، فإن جعل بعض الأفعال مناطاً للثواب والمدح، والبعض الآخر مناطاً للعقاب والذم بلا موجب مرجّح من ذاتها، مستحيل قطعاً، والصانع الحكيم لا يرجّح المرجوح بل المساوي. وبالجملة: حكمة الأمر قاضية بأنّ تخصيصات الأفعال بثمراتها لابدّ لها من مرجّح من ذواتها، وقد بيّن في موضعه، وما أحسن ما قال الشيخ الأكبر محي الدين بن علي العربي في بعض مصنّفاته: لولم يكن للأفعال خصوصيّة داعية إلى ثمراتها المخصوصة بها، ويكون الأفعال التي على هوى النفس والتي على خلاف هواها سواسية في تعلّق ثمراتها بها، يلزم نسبة الظلم إليه، تعالى الله عن ذلك، فإنّ الطّاعات الواجبة كلّها على خلاف هوى النفس، ولذا قال عليه السّلام: أفضل العبادات أحمزها، بل الفعل خلاف الهوى عين الطاعة، والمعاصي كلّها على وفاق هواها، بل وفاق الهوى نفس المعصية، وإذا كانت الطاعات متساوية النسبة في الواقع، بجعلها مناطاً للثواب والعقاب، وكذا المعاصي بجعلها مناطاً لها، فتحريم المعاصي بكفّ النفس عن الشهوات في الدنيا، وإيجاب الطاعات بقهر النفس فيها بلا ضرورة باعثة، ظلم، لأنّه حبس النفس عن الشهوات وإقحامها في القهر في الدنيا بلا فائدة، ولو عكس الله الأمر لفاز العبد بالراحتين في الاُولى والآخرة».
وهكذا قال صاحب (مسلّم الثبوت) وشارحه، وهما من أعاظم المحققين، فقد جاء في (فواتح الرحموت) ما نصّه:
«وعند أهل الحق، أصحاب العناية، الذين هم أهل السنّة، الباذلون أنفسهم في سبيل الله بالجهاد الأكبر، له قدرة كاسبة فقط لا خالقة، لكن عند الأشعريّة من الشافعيّة ليس معنى ذلك الكسب إلاّ وجود قدرة متوهّمة يتخيّله الشخص قدرة مع الفعل بلا مدخليّة لها أصلاً في شيء، فعندهم إذا أراد الله تعالى أن يخلق في العبد فعلاً، يخلق أوّلاً صفة يتوهّم أوّل الأمر إنّها قدرة على شيء، ثمّ يوجّه الله تعالى إلى الفعل ثمّ يوجد الفعل، فنسبة الفعل إليه كنسبة الكتابة إلى القلم. قالوا: ذلك كاف في صحّة التكليف.
والحقّ: أنّه كفؤ للجبر، وهو ظاهر، فإنّه متى لم يكن في العبد قدرة حقيقة، فأيّ فرق بينه وبين الجماد»(1).
(1) فواتح الرحموت ـ شرح مسلّم الثبوت 1 : 41 .