وابن كثير الدمشقي
قال ابن كثير الدمشقي في تاريخه (البداية والنهاية):
«وإخباره عليه السلام عن أبويه وجدّه عبدالمطلب بأنّهم من أهل النّار، لا ينافي الحديث الوارد عنهم ـ من طرق متعددة ـ أنّ أهل الفترة والأطفال والمجانين والصمّ يمتحنون في العرصات يوم القيامة، كما بسط سنداً ومتناً عند قوله تعالى: ( وما كنّا معذّبين حتّى نبعث رسولاً ) فيكون منهم من يجيب ومنهم من لا يجيب، فيكون هؤلاء من جملة من لا يجيب.
والحديث الذي ذكره السهيلي ـ في إسناده مجاهيل ـ إلى أبي الزناد عن عروة عن عائشة: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سأل ربّه أن يحيي أبويه فأحياهما وآمنا به.
فإنّه منكر جدّاً، وإنْ كان ممكناً بالنظر إلى قدرة الله تعالى، لكن الذي ثبت في الصحيح يعارضه»(1).
وكذّب أبوالخطّاب ابن دحية أيضاً حديث السهيلي، ونصَّ على أنّه موضوع، قال القسطلاني:
«قال ابن دحية: هذا الحديث موضوع، يردّه القرآن والإجماع، إنتهى. وقد جزم بعض العلماء بأنّ أبويه صلّى الله عليه وسلّم ناجيان وليسا في النّار، متمسّكاً بهذا الحديث وغيره. وتعقّبه عالم آخر بأنّه لم ير أحداً صرّح بأنّ الإيمان بعد انقطاع العمل بالموت ينفع صاحبه، فإنْ ادّعى أحد الخصوصيّة فعليه الدليل، إنتهى. وقد سبقه بذلك أبوالخطّاب ابن دحية وعبارته: من مات كافراً لم ينفعه الإيمان بعد الرجعة، بل لو آمن عند المعاينة لم ينفعه ذلك فكيف بعد الإعادة»(2).
وقد أطنب ابن كثير في المسألة في (تفسيره) بتفسير قوله تعالى: ( وما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا اُولي قربى من بعد ما تبيّن لهم أنّهم أصحاب الجحيم ) وقال:
«قال الإمام أحمد: حدّثنا الحسن بن موسى، حدّثنا زهير، حدّثنا زبيد ابن الحرث اليامي، عن محارب بن دثار، عن ابن بريدة عن أبيه قال:
كنّا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، فنزل بنا ونحن معه قريب من ألف راكب، فصلّى ركعتين، ثمّ أقبل علينا بوجهه وعيناه تذرفان، فقام إليه عمر بن الخطّاب وفدّاه بالأب والاُم وقال: يا رسول الله! مالك؟
قال: إنّي سألت ربّي عزّ وجلّ في الإستغفار لاُمّي فلم يأذن لي، فدمعت عيناي رحمةً لها من النّار.
وإنّي كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها لتذكّركم زيارتها خيراً، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث، فكلوا وأمسكوا ما شئتم، ونهيتكم عن الأشربة في الأوعية، فاشربوا في أيّ وعاء شئتم ولا تشربوا مسكراً.
وروى ابن جرير من حديث علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لمّا قدم مكّة، أتى رسم قبر، فجلس إليه فجعل يخاطب، ثمّ قام مستعبراً، فقلنا: يا رسول الله! إنّا رأينا ما صنعت.
قال: إنّي استأذنت ربّي في زيارة قبر اُمّي فأذن لي، واستأذنته في الإستغفار لها، فلم يأذن لي، فما رُئي باكياً أكثر من يومئذ.
وقال ابن أبي حاتم في تفسيره: حدّثنا أبي، حدّثنا خالد بن خداش، حدّثنا عبدالله بن وهب، عن ابن جريح عن أيوب بن هاني، عن مسروق، عن عبدالله بن مسعود قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوماً إلى المقابر فأتبعناه، فجاء حتّى جلس إلى قبر منها، فناجاه طويلاً ثمّ بكى، فبكينا لبكائه، ثمّ قام، فقام إليه عمر بن الخطّاب فدعاه ثمّ دعانا فقال: ما أبكاكم؟ قلنا: بكينا لبكائك.
قال: إنّ القبر الذي جلست عنده قبر آمنة، وإنّي استأذنت ربّي في زيارتها فأذن لي، وإنّي استأذنت ربّي في الدعاء لها، فلم يأذن لي وأنزل علَيّ: ( ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا اُولي قربى )، فأخذني ما يأخذ الولد للوالد، وكنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنّها تذكّر الآخرة.
حديث آخر في معناه: قال الطبراني: حدّثنا محمّد بن علي المروزي، حدّثنا أبوالدرداء عبدالعزيز بن منيب، حدّثنا إسحاق بن عبدالله بن كيسان، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عبّاس: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمّا أقبل من غزوة تبوك واعتمر، فلمّا هبط من ثنية عسفان، أمر أصحابه أن يستندوا إلى العقبة حتّى أرجع إليكم، فذهب فنزل على قبر اُمّه، فناجا ربّه طويلاً، ثمّ إنّه بكى، فاشتدّ بكاؤه وبكى هؤلاء لبكائه وقالوا: ما بكى نبيّ الله هذا البكاء إلاّ وقد اُحدث في اُمّته شيء لا يطيقه، فلمّا بكى هؤلاء قام فرجع إليهم فقال: ما يبكيكم؟ فقالوا: يا نبيّ الله! بكينا لبكائك، قلنا: لعلّه اُحدث في اُمّتك شيء لا تطيقه. قال: لا، وقد كان بعضه.
ولكن نزلت على قبر اُمّي، فدعوت الله أن يأذن لي في شفاعتها يوم القيامة فأبى الله أن يأذن لي، فرحمتها وهي اُمّي فبكيت، ثمّ جاءني جبرئيل فقال: ( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلاّ عن موعدة وعدها إيّاه فلمّا تبيّن له أنّه عدوٌّ لله تبرّأ منه ) فتبرّأ أنت من اُمّك كما تبرّأ إبراهيم من أبيه، فرحمتها وهي اُمّي.
ودعوت ربّي أن يرفع عن اُمّتي أربعاً، فرفع عنهم اثنين وأبى أن يرفع عنهم اثنتين، دعوت ربّي أن يرفع عنهم الرجم من السماء والغرق من الأرض، وأن لا يلبسهم شيعاً، وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض، فرفع عنهم الرجم من السماء والغرق من الأرض، وأبى الله أن يرفع عنهم القتل والهرج.
وإنّما عدل إلى قبر اُمّه، لأنّها كانت مدفونة تحت كدي، وكانت عسفان لهم.
وهذا حديث غريب وسياق عجيب.
وأغرب منه وأشدّ نكارة:
ما رواه الخطيب البغدادي في كتاب السابق واللاّحق، بسند مجهول، عن عائشة، في حديث فيه قصّة: أنّ الله أحيا اُمّه فآمنت ثمّ عادت.
وكذلك ما رواه السهيلي في الرّوض، بسند فيه جماعة مجهولون: أنّ الله أحيا له أباه واُمّه فآمنا به. وقد قال الحافظ ابن دحية: هذا الحديث موضوع، يردّه القرآن والإجماع، قال الله تعالى: ( ولا الذين يموتون وهم كفّار ).
وقد مال أبو عبدالله القرطبي إلى هذا الحديث، وردّ على ابن دحية في هذا الإستدلال ما حاصله: إنّ هذه حياة جديدة، كما رجعت الشمس بعد غيبوبتها فصلّى عليّ العصر. قال الطحاوي: وهو حديث ثابت. يعني حديث الشمس. قال القرطبي: فليس إحياؤهما بممتنع عقلاً ولا شرعاً. قال: وقد سمعت أنّ الله أحيى عمّه أباطالب فآمن به.
قلت: وهذا كلّه يتوقّف على صحّة الحديث، فإذا صحّ فلا مانع منه. والله أعلم.
وقال العوفي عن ابن عباس في قوله: ( ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ) الآية، فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أراد أن يستغفر لاُمّه فنهاه الله عن ذلك، فقال: فإنّ إبراهيم خليل الله قد استغفر لأبيه فأنزل الله: ( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلاّ عن موعدة وعدها إيّاه ) الآية.
وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاس في هذه الآية: كانوا يستغفرون لهم حتّى نزلت هذه الآية، فلمّا اُنزلت أمسكوا عن الإستغفار لأمواتهم، ولم ينهوا أن يستغفروا للأحياء حتّى يموتوا، ثمّ أنزل الله: ( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه )الآية.
وقال قتادة في هذه الآية: ذكر لنا أنّ رجالاً من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قالوا: يا نبيّ الله! إنّ من آبائنا من كان يحسن الجوار ويصل الأرحام، ويفكّ العاني ويوفي بالذمم، أفلا نستغفر لهم؟ قال: فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: بلى والله، إنّي لأستغفر لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه، فأنزل الله: ( ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ) حتّى بلغ الجحيم، ثمّ عذّر الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال: ( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلاّ عن موعدة وعدها إيّاه فلمّا تبيّن له أنّه عدوٌّ لله تبرّأ منه )»(3).
(1) البداية والنهاية = تاريخ ابن كثير 2 : 281 .
(2) المواهب اللدنيّة بالمنح المحمّديّة 1 : 90/ ذكر رضاعه .
(3) تفسير ابن كثير 4 : 221 ـ 224 والآية في سورة التوبة : 113 .